للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: فرجَع الحق إلى نصابه، ورُدَّ شاردُ العدل بعد إيابه (١)، واستقرت بقريش الدار، وقضت من خُزاعة المراد والأوطار، وتسلمت بيتَهم العتيق القديم، لكن بما أحدثتْ خُزاعة من عبادة الأوثان ونصْبها إياها حول الكعبة، ونحرهم لها، وتضرّعهم عندها، واستنصارهم بها، وطلبهم الرزق منها. وأنزل قُصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم ظواهرها، فكان يقال: قريش البطاح وقريش الظواهر. فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته واللواء، وبنَى دارًا لإزاحة الظلامات وفَضْل الخصومات سمَّاها دار النَّدْوة، إذا أعضلت قضيةٌ اجتمع الرؤساءُ من كلِّ قبيلةٍ فاشْتَوَرُوا فيها وفصلوها، ولا يُعقَد عقدُ لواء ولا عقدُ نكاح إلا بها، ولا تبلغ جاريةٌ أن تَدَّرِعَ فتدَّرع (٢) إلا بها. وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام، ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام بعد بني عبد الدار، فباعها في زمن معاوية بمئة ألف درهم، فلامه على بيعها مُعاوية، وقال: بعتَ شرف قومك بمئة ألف؟ فقال: إنما الشرف اليوم بالتقوى. والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزقِّ خَمر، وها أنا قد بعتها بمئة ألف، وأشهدكم أن ثمنها صدقةٌ في سبيل الله، فأيُّنا المغبون. ذكره الدارَقُطني في "أسماء رجال الموطّأ" (٣).

وكانت إليه سقاية الحجيج، فلا يشربون إلا من ماء حياضه، وكانت زمزم إذ ذاك مطمومة (٤) من زمن جُرهم، قد تناسَوا أمرها من تقادُم عهدها، ولا يهتدون إلى موضعها. قال الواقدي: وكان قُصي أول من أحدَث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات. والرِّفادة وهي إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم. قال ابن إسحاق: وذلك أن قُصيًا فرضه عليهم، فقال لهم: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة (٥)، وأهل الحرم. وإن الحُجَّاج ضيفُ الله وزوَّار بيته، وهم أحق بالضيافة (٦)، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا فكانوا يُخرِجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجًا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعامًا للناس أيام مِنًى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنًى للناس حتى ينقضي الحج (٧).


(١) في ب: وآب: شرد بعد ذهابه.
(٢) ادرعت الجارية: لبست الدرع والدرع قميص المرأة.
(٣) نقله السهيلي في الروض (١/ ١٤٩).
(٤) في ط: مطموسة.
(٥) في ب: بيته. وكذلك في السيرة.
(٦) زاد في ب: والكرم، وفي السيرة: أحق الضيف بالكرامة.
(٧) السيرة (١/ ١٣٠).