للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فحمله، وقمتُ إلى الصَّبِيَّة فعلّلتُها، فوالله إنْ سَكتا إلا بعدَ هدْأَةٍ من الليل. ثم عُدْنا إلى الصبيِّ الآخر فعلّلناه حتى سكتَ وما كاد. ثم افترشنا قَطِيفةٌ (١) لنا شامية ذات خمل، فأضْجعنا الصبيان عليها، ونمتُ أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا، ثم أقبل عليَّ يُعلّلني لأنامَ، وعرفتُ ما يريدُ، فتناومْتُ. فقال: مالكِ أنمتِ؟ فسكتُّ. فقال: ما أراها إلا قد نامت وما بي نوم. فلما ادلهمَّ الليلُ وتهوَّرت النجوم (٢)، وهدأتِ الأصواتُ، وسكنتِ الرِّجْلُ، إذا جانب البيت قد رُفع. فقال: من هذا؟ فولّى، حتى قلتُ: إذًا قد أسْحَرنا أو كِدنا، عاد فقال: من هذا؟ قالت: جارتُك فُلانة يا أبا عدي، ما وجدتُ على أحد معولًا غيرَك، أتيتك من عند أصْبيةٍ يتعاوَوْن عواء الذئاب من الجوع. قال: أعجليهم عليَّ. قالت النوارُ: فوثبتُ فقلتُ: ماذا صنعتَ؟! (٣) والله لقد تضاغى أصْبيتُك فما وجدت ما تعلّلهم [به] (٤) فكيف بهذه وبولدها؟ فقال: اسكتي، فوالله لأُشْبِعَنّك [وإياهم] (٤) إن شاء الله. قالت: فأقبلتْ تحملُ اثنين، وتمشي جنبتيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه، فوَجَأ بحرْبَتِه في لَبّته (٥)، ثم قدَح زَنْده وأورى ناره، ثم جاء بِمدْية فكَشَط عن جلده، ثم دفع المديةَ إلى المرأة، ثم قال: دُونَكِ. ثم قال: ابعثي صِبيانك، فبعثتهم. ثم قال: سوءةً! أتأكلون شيئًا دون أهل الصِّرم (٦)؟ فجعل يطوفُ فيهم حتى هَبّوا وأقبَلُوا عليه. والتَفَعَ في ثوبه ثم اضجع ناحية ينظر إلينا. والله ما ذاقَ مُزْعَةً (٧)، وإنه لأحْوَجُهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عَظْم أو حافر (٨).

وقال الدارقُطني: حدّثني القاضي أبو عبد الله المحاملي، حدّثنا عبد الله بن أبي سعد، حدّثنا عُثَيم بن ثوابة بن حاتم الطائي، عن أبيه، عن جدّه قال: قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سَفّانة، أشتهي أنْ آكلَ أنا وأنتَ طعامًا وحدَنا ليس عليه أحدٌ. فأمَرَها فحوّلت خَيْمتَها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام فهُيئ، وهي مرخاة ستورها عليه وعليها، فلما قاربَ نضجُ الطعام كشفَ عن رأسه ثم قال: [من الطويل]

فلا تطبخي قِدري وسِتْرُكِ دونَها … عليَّ إذنْ ما تطبخينَ حَرامُ


(١) القطيفة: دثار مُخَمَّل.
(٢) تهوَّرت النجوم ذهبت، أو ولّى أكثرها.
(٣) زاد في ط: اضطجع.
(٤) زيادة من ب.
(٥) الرأل: ولد النعام. ووجأ: ضرب. واللبة: المنحر.
(٦) الصرم: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس.
(٧) المُزعة: القطعة من اللحم.
(٨) في ط: وحافر. والخبر في الشعر والشعراء (١/ ٢٤٢ - ٢٤٤)، والأغاني (٧/ ٣٠٢ - ٣٠٣)، ونشوة الطرب (١/ ٢٢٥)، وفي روايته اختلاف يسير.