٢ - وأخرج ابن سعد خبرًا بسند حسنٍ عن عبد الله بن الصامت وفيه أن أبا ذر استأذن عثمان في الخروج إلى الربذة (الطبقات الكبرى ٤/ ٢٣٢). وهاتان الروايتان (رواية البخاري، وابن سعد) إضافة إلى رواية الطبري تؤكد: أن خروج أبي ذر إلى الربذة واعتزاله الناس كان بناءً على رغبته فأجازه عثمان، ولعلّه رآه خيرًا لأن المستوى الرفيع من الزهد والتقشف الذي يدعو إليه أبو ذر ليس واجبًا على كل مسلم وإنما الواجب في المال هو أداء حقه كالزكاة وما إلى ذلك من نفقة الأهل والعيال ومن تجب نفقته، ولكن عامة الناس لا يدركون ذلك (جلّهم) والاختلاف في تفسير الآية واردٌ في أمهات التفسير فلا ضير، ولكن عثمان رضي الله عنه خشي أن تؤخذ آراؤه على غير محملٍ ولم يهن أبا ذر بل أكرمه وطلب منه أن لا يقطع صلته تمامًا بالحياة اليومية للمسلمين في عاصمة الخلافة (المدينة) بل يتردد إليه بين الحين والآخر، وفرض له من المال ما يقتات به وزيادة، فأين هذا الأدب الجمّ بين الصحابة من افتراءات المبتدعة والمستشرقين ومن تربوا على موائدهم؟ ! والحمد لله على نعمة الإسناد. ٣ - أما قول أبي ذر في رواية الطبري عندما وصل إلى المدينة ورأى المباني قد كثرت حتى وصلت إلى منطقة سلع: (بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار) فصحيح، فقد أخرج البخاري في صحيحه (٤/ ١١٣) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أُطم من آطام المدينة فقال: (هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر). وأخرج الحاكم في المستدرك (٤/ ٣٤٤) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: "إذا بلغ البنيان سلعًا فاخرج منها". وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواية البخاري والحاكم تدل على نبوءة تنبأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي من دلائل إعجازه، وتدلّ على حب الموحدة، ولم يكن السبب الوحيد لاعتزال أبي ذر، وإنما امتثالًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبره به، كما أن عثمانًا رضي الله عنه لم يتنازل عن الخلافة لأسباب؛ أقواها امتثاله لأوامر رسول الله وصبره على البلاء والفتنة علمًا من أنه كان متيقنًا من أنهم سيقتلونه! فهل هذه مفخرة أم شبهة؟ ! اللهم إنما نبرأ إليك من مقولات المبتدعة والجاهلين!