القول في الدلالة على أن الله عزّ وجلّ القديم الأول قبل كل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره
فمن الدلالة على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهَد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسمَ إلا مفترِق أو مجتمع، وأنه لا مفترِق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمعَ منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عُدِم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أن اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأنَّ الافتراقَ إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن.
وإذا كانَ الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يُشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدَث بتأليف مؤلّف له إن كان مجتمعًا، وتفريق مفرّق له إن كان مفترقًا. وكان معلومًا بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعًا، ومفرّقه إن كان مفترقًا منْ لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء، وهو علي كل شيء قدير فبيِّنٌ بما وصفنا أن باريء الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء، وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات، وأن محدثها الذي يُدبرها ويُصَرّفها قبلها، إذْ كان من المحال أن يكون شيء يُحدث شيئًا إلا ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ (٢٠)}، لأبلغُ الحجج، وأدلُّ الدلائل -لمن فكَّر بعقل، واعتبر بفهم- على قِدَم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأنّ لها خالقًا لا يشبهها.
وذلك أن كلّ ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال والأرض والإبل فإنّ ابنَ آدم يعالجه ويدبّره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غيرَ ممتنع عليه شيء من ذلك. ثم إنَّ ابن آدم مع ذلك غير قادر علي إيجاد شيء من ذلك من غير أصل؛ فمعلوم أن العاجز عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسَه، وأن الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم يوجده مَن هو مثله، ولا هو أوجدَ