ورجلين من الشُّطّار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمّار، وفرج البغواريّ ومالك بن شاهي وجماعة معهم ممّن كان سعى في البيعة لإبراهيم؛ بعد أن ضُربوا بالسياط ما خلا عمّارًا، فإنه أومن لما كان من إقراره على القوم في المطبَق، فرفع بعض أهل المطبَق أنهم يريدون أن يشغَبوا وينقبُوا السجن - وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدّوا باب السجن من داخل فلم يدَعُوا أحدًا يدخل عليهم - فلما كان الليل وسمعوا شغْبهم، بلغ المأمونَ خبرُهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرًا، وأسمعه ابن عائشة شتمًا قبيحًا؛ فلما كانت الغداة صُلبوا على الجسر الأسفل؛ فلما كان من الغداة يوم الأربعاء أنزل إبراهيم بن عائشة، فكُفِّن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل ابن الإفريقيّ فدفن في مقابر الخيزران وتُرك الباقون.
* * *
العفو عن إبراهيم بن المهديّ (١)
وذكر أن إبراهيم بن المهديّ لما أخذ صِير به إلى دار أبي إسحاق بن الرشيد - وأبو إسحاق عند المأمون - فحُمل رديفًا لفرج التركيّ؛ فلما أدخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أميرَ المؤمنين، وليّ الثأر محكّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مُدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب؛ كما جعل كلَّ ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقِّك، وإن تعفُ فبفضلك، قال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبّر ثمّ خرّ ساجدًا.
وقيل إن إبراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختفٍ، فوقّع المأمون في حاشية رقعته:"القُدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله"، فقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خيرَ من ذَمَلَت يمانيةٌ به ... بعد الرسول لآيسٍ ولطامعِ
وأَبرَّ من عَبَدَ الإِله على التقى ... عينًا وأَقْوَله بحقٍّ صادع
(١) وكذلك قال خليفة كما ذكرنا آنفًا وانظر تأريخ خليفة (٣١٤) والبداية والنهاية (٨/ ١٦٠).