قال: وكان لقُتيبة عينٌ يقال له تنذر من العجم، فأعطاه أهل البخاري الأعلى مالًا على أن يفثأ عنهم قتيبة؛ فأتاه، فقال: أخْلني، فنَهَض الناسُ واحتَبَس قتيبةُ ضرارَ بنَ حصين الضّبيّ، فقال تنذر: هذا عاملٌ يَقدُم عليك، وقد عُزل الحجاج، فلو انصرفتَ بالناس إلى مروَ! فدعا قتيبة سيَاه مولاه، فقال: اضرب عُنُقَ تنذر، فقتَلَه، ثم قال لضرار: لم يبق أحدٌ يَعلَم هذا الخبر غَيري وغيرك، وإنّي أعطي اللهَ عَهْدًا إن ظَهَر هذا الحديثُ من أحد حتى تَنْقَضيَ حربُنا هذه لألحقنّك به؛ فأملك لسانَك، فإنّ انتشار هذا الحديث يَفُتّ في أعضاد الناس. ثمّ أذن للناس.
قال: فدخلوا، فَراعَهم قَتلُ تنذر، فوَجَموا وأطرَقوا، فقال قتيبة: ما يَروعُكم من قتل عبد أحانه الله! قالوا: إنا كنا نظنّه ناصحًا للمسلمين، قال: بل كان غاشًّا فأحانَه الله بذنْبه، فقد مضى لسبيله، فاغدُوا على قتال عدوّكم، والقوهم بغير ما كنتم تلقَونهم به، فغدا الناس متأهِّبين، وأخذوا مصافَّهم، ومَشَى قتيبة فحضّ أهل الرايات، فكانت بين الناس مُشاوَلة، ثم تزاحَفوا والتقَوا، وأخذت السيوفُ مأخذَها، وأنزَل اللهُ على المسلمين الصبرَ، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثمّ مَنَح اللهُ المسلمين أكتافَهم، فانهزَموا يريدون المدينة، وأتبعهم المسلمون فشَغَلوهم عن الدخول فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قَتلًا وأسرًا كيف شاؤوا، واعتصم من دخَل المدينة بالمدينة، وهم قليل، فوَضَع قتيبةُ الفَعَلة في أصلها ليَهدِمها، فسألوه الصلحَ فصالحهم، واستعمل عليهم رجلًا من بني قُتيبة.
وارتحل عنهم يريدُ الرّجوع، فلما سار مرحلةً أو ثنتين، وكان منهم على خَمسة فراسخ نَقَضوا وكَفَروا، فقتلوا العاملَ وأصحابَه، وجدّعوا أنُوفَهم وآذانَهم، وبلغ قتيبة فرجع إليهم، وقد تحصّنوا، فقاتَلَهم شهرًا، ثمّ وضع الفعلة في أصل المدينة فعلّقوها بالخشب، وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدِم، فسقط الحائط وهم يعلّقونه، فقتل أربعين من الفَعَلة، فطلبوا الصّلح، فأبى وقاتَلَهم، فظفِر بهم عَنْوة، فقتل من كان فيها من المُقاتلة، وكان فيمن أخذُوا في المدينة رَجُل أعوَر كان هو الذي استجاش التُّرْك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي، فقال له سُلَيم الناصح: ما تَبذُل؟ قال: خمسة آلاف