قال عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)}. فلم يزده خلقُه إيّاهم -إذ خلقهم- في سلطانه علي ما لم يزل قبل خلقه إيّاهم مثقال ذرّة، ولا هو إن أفناهم وأعدمهم ينقصه إفناؤه إياهم ميزان شعرة، لأنه لا تغيّره الأحوال، ولا يدخلُه الملال، ولا ينقصُ سلطانه الأيام والليال؛ لأنه خالقُ الدّهور والأزمان، فعمّ جميعَهم في العاجل فضلُه وجودُه، وشمَلهم كرمه وطَوْلُه، فجعل لهم أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وخصّهم بعقول يصلون بها إلي التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافعَ والمضارّ، وجعل لهم الأرض بساطًا ليسلكوا منها سُبلًا فجاجًا، والسماء سقفًا محفوظا، [وبناء مسموكًا]؛ وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاقَ بالمقدار، وأجري لهم [فيها] قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسًا، والنهار معاشًا، وخالف -منًّا منه عليهم وتطوّلًا- بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آيةَ الليل وجعل آية النهار مبصرةً، كما قال جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه:{وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالنَّهَارَ آيَتَينِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}.
وليصلوا بذلك إلي العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين؛ من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حلِّ ديونهم وحقوقهم؛ كما قال عزَّ وجلَّ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)} [يونس: ٥، ٦] إنعامًا منه بكلّ ذلك علي خلْقه، وتفضُّلًا منه به عليهم وتطولًا، فشكرَه علي نعمه التي أنعمها عليهم مِن خلقه خلقٌ عظيم، فزاد كثيرًا منهم من آلائه وأياديه، علي ما ابتدأهم به من فضله وطوْله، كما وعدهم جلّ جلاله بقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧)}، وجمع لهم إلي الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوزَ بالنعيم المقيم، والخلودَ في جنات النعيم، في آجل آخرتهم، وأخَّر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدّهم إلي حين مصيرهم [إليه]، ووقت قدومهم