لا يعلم سليمانُ بشيء من ذلك أربعين صَباحًا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا -وكان صدِّيقًا، وكان لا يُرَدّ عن أبواب سليمان أيّ ساعة أراد دخولَ شيء من بيوته دخل، حاضرًا كان سليمان أو غائبًا- فأتاه فقال: يا نبيّ الله! كبِرت سِني، ودقّ عظمي، ونفِد عمري، وقد حان مني ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه مَنْ مضي من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناسَ بعضَ ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر مَنْ مضي من أنبياء الله، فأثني علي كلّ نبيّ بما فيه، وذكر ما فضّله الله به، حتى انتهي إلي سليمان وذكَره، فقال: ما كان أحلمَك في صغرك، وأورعَك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كلّ ما يُكْرَه في صغرك! ثم انصرف فوجَد سليمان في نفسه حتى ملأه غضبًا، فلما دخل سليمان دارَه أرسل إليه، فقال: يا آصف! ذكرت مَنْ مضي من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرًا في كلِّ زمانهم، وعلي كلِّ حال من أمرهم، فلما ذكرتَني جعلت تُثني عليّ بخيرٍ في صغري، وسكتّ عما سِوي ذلك من أمري في كِبَري، فما الذي أحدثتُ في آخر أمري؟ قال: إن غيرَ الله ليُعبَد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوي امرأة، فقال: في داري! فقال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد عرفتُ أنك ما قلتَ إلّا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلي داره فكسَّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتِيَ بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسّها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلي فلاة من الأرض وحدَه، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبًا إلي الله حتى جلس علي ذلك الرماد، فتمعّك فيه بثيابه تذللًا لله جلّ وعزّ وتضرّعًا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول: -فيما ذكر لي والله أعلم-: رَبِّ ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك، وأن يُقِرّوا في دورهم وأهاليهم عبادةَ غيرك! فلم يزلْ كذلك يومه حتى أمسي، يبكي إلي الله ويتضرّع إليه ويستغفره، ثم رجع إلي داره- وكانت أمّ ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبَه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمَه عندها حتى يتطهّر، وكان لا يمسّ خاتَمه إلا وهو طاهر، وكان ملكُه في خاتمه، فوضعه يومًا من تلك الأيام عندها كما كان يضعه. ثم دخل مذهبه، وأتاها الشيطانُ صاحب البحر