بين أظهرهم ابنًا له، فقتل غِيلة، فقدمها وهو مُجْمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها؛ فجمع له هذا الحيّ من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلّة، أحد بني النجّار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول؛ فخرجوا لقتاله. وكان تُبّع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم -من بني عديّ بن النجار يقال له: أحمر- رجلًا من أصحاب تُبّع، وجده في عَذْق له يجُدّه، فضربه بِمنْجله فقتله، وقال: إنما الثمرُ لمن أبَرّه، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان. فزاد ذلك تُبّعًا عليهم حَنَقًا.
فبينا تُبّع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه -قال: فتزعُمُ الأنصار: أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويَقْرُونه بالليل فيُعجِبه ذلك منهم؛ ويقول: والله إنّ قومَنا هؤلاء لكرام- إذ جاءه حَبْران من أحبار يهود من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل؛ فإنّك إن أبيت إلّا ما تريد حِيلَ بينك وبينها، ولم نأمنْ عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي مهاجَر نبيّ يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهَى عند ذلك من قولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علْمًا، وأعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتّبعهما على دينهما. وكان اسم الحبْرَين كعبًا وأسدًا، وكانا من بني قريظة، وكانا ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما كما ذكر لي ابن حميد عن سَلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عمرو، عن أبان بن أبي عيّاش، عن أنس بن مالك، عن أشياخ من قومه ممن أدرك الجاهلية؛ فقال شاعر من الأنصار وهو خال ابن عبد العُزّى بن غزيّة بن عمرو بن عَبْد بن عوف بن غَنْم بن مالك بن النجّار، في حربهم وحرب تُبّع، يفتخر بعمرو بن طَلّة ويذكر فضله وامتناعه:
أصَحا أم انْتَهَى ذُكَرَهْ ... أمْ قَضَى مِنْ لَذَّةٍ وَطَرَهْ