فوليَ البيت بعد إبراهيم إسماعيل، وبعد إسماعيل نَبْت؛ وأمُّه الجرهميّة؛ ثم مات نَبْت، ولم يكْثر ولد إسماعيل، فغلبت جُرْهم على ولاية البيت؛ فقال عمرو بن الحارث بن مُضاض:
فكان أولَ مَنْ وَليَ من جُرْهُم البيتَ مُضاض، ثم وليتْه بعده بنُوه كابرًا بعد كابر؛ حتى بغتْ جُرُهم بمكّة، واستحلُّوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهْدَى لها، وظلموا مَنْ دخل مكّة، ثم لم يتناهَوْا حتى جعل الرجُلُ منهم إذا لم يجد مكانًا يزني فيه يدخل الكعبة فيزني، فزعموا: أنّ إسافًا بَغَى بنائلة في جَوْف الكعبة، فمسخا حَجَرين، وكانت مكّة في الجاهلية لا ظلمَ ولا بَغْيَ فيها، ولا يستحلُّ حرمتها مَلِكٌ إلَّا هلك مكانه فكانت تسمى النّاسّة، وتُسَمَّى بَكّة، تَبُكّ أعناق البغايا إذا بَغَوْا فيها، والجبابرة.
قال: ولمّا لم تتناهَ جُرْهم عن بَغْيها، وتفرّق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخزع بنو حارثة بن عمرو، فأوْطنوا تهامة - فسّميت خُزاعة، وهم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة - وأسلم ومالك وملْكان بنو أفْصَى بن حارثة، فبعث الله على جُرْهم الرَّعَاف والنّمل، فأفناهم، فاجتمعت خُزاعة ليجلُوا مَنْ بَقِيَ، ورئيسُهم عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمّه فُهَيرة بنت عامر بن الحارث بن مُضاض، فاقتتلوا، فلمّا أحسَّ عامر بن الحارث بالهزيمة، خرج بغزالي الكعبة وحجر الرّكن يلتمس التوبة، وهو يقول:
لا هُمَّ إنَّ جُرْهُمًا عِبَادُكْ ... النَّاس طُرْفٌ وَهُمُ تِلَادُكْ
بِهِمْ قَدِيمًا عمِرَتْ بِلَادُكْ
فلم تُقْبَل توبتُه، فألقى غزالي الكعبة وحجر الرّكن في زمزم، ثم دفنها، وخرج مَنْ بقي من جُرْهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتِيٌّ، فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصّلت:
وَجُرْهُمْ دَمَّنُوا تِهَامَةَ في الدّهْرِ ... فَسَالتْ بِجَمْعِهمْ إضَمُ