للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعظمُ من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره؛ إلا بعون منه؛ ولئن كان قُدِّرَ لأمير المؤمنين تعجيل وفاةٍ، وإنّ في الذي هو مفضٍ إليه إن شاء الله من كرامةِ الله لخَلَفًا من الدنيا، ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبتَ به لغيرُ مستنكر من سفهك وحمقك، فاربَع على نفسك من غُلوائها، وارقأ على ظَلْعك؛ فإن لله سطوات وعينًا؛ يصيب بذلك من يشاءُ، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله؛ وأميرُ المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحبّ الأمور إليه وأرضاها له.

فكتب الوليد إلى هشام:

رأَيتُكَ تبْنِي جاهدًا في قَطِيعَتِي (١) ... فَلَوْ كُنْتَ ذَا إِرْبٍ لَهَدَّمْت ما تبْنِي

تُثِيرُ على الباقِينَ مَجْنَى ضَغينةٍ ... فَوَيلٌ لهُمْ إِنْ مِتّ مِن شَرّ ما تجني!

كأَني بهمْ واللَّيْثُ أَفْضل قوْلهِمْ ... أَلَا لَيْتَنا واللَّيْث إذ ذاكَ لا يُغْنِي

كفَرْتَ يَدًا مِنْ مُنْعِمٍ لو شَكَرَتَها ... جَزَاكَ بها الرَّحمنُ ذو الفضل والمنِّ

قال: فلم يزل الوليد مُقيمًا في تلك البرّية حتى مات هشام؛ فلما كان صبيحةُ اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزّبير المنذر بن أبي عمرو، فأتاه فقال له: يا أبا الزبير؛ ما أتت عليّ ليلة منذ عقلت عقلي أطولَ من هذه الليلة؛ عرضت لي هموم، وحدّثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل؛ الذي قد أولع بي - يعني هشامًا - فاركب بنا نتنَّفس؛ فركبا، فسارا ميلين؛ ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشامًا إذ نظر إلى رَهج، فقال: هؤلاء رسلُ هشام؛ نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان؛ أحدهما مولىً لأبي محمد السفيانيّ، والآخر جَرْدَبَة.

فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوَان حتى دنَوَا منه، فسلما عليه بالخلافة، فوَجَم، وجعل جردبة يكرّر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قال: نعم؛ قال فممّن كتابك؟ قال: من مولاك سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، فقرأ الكتاب وانصرفا، فدعا مولي أبي محمد السُّفيانيّ، فسأله عن كاتبه عياض بن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لم يزل محبوسًا حتى نزل بهشام أمرُ الله. فلما صار في حدّ لا تُرجَى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخُزّان؛


(١) الأغاني: ٧: ٨، وفي ابن الأثير: "تبني دائمًا".

<<  <  ج: ص:  >  >>