وكان سبب ذلك أنّ أبا جعفر المنصور بني - فيما ذكر - حين أفضى الأمر إليه الهاشميّة، قبالَة مدينة ابن هُبيرة، بينها عَرْض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشميّة، إلى جانب الكوفة. وبني المنصور أيضًا مدينة بظهر الكوفة سماها الرُّصافة، فلما ثارت الرّاوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمى الهاشمية، وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سُكناها لاضطراب من اضطرب أمرُه عليه من الرّاوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعُد من جوارهم؛ فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعًا يتخذه مسكنًا لنفسه وجنده، ويبتني به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جَرْجَرَايا ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالِحٌ، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كلّ ما في البحر، وتأتينا المِيرة من الجزيرة وأرمينيَة وما حول ذلك، وهذا الفُرات يجيء فيه كلّ شيء من الشأم والرّقّة وما حول ذلك، فنزل وضرب عسكره على الصّراة، وخطّ المدينة، ووكل بكل رُبْع قائدًا.
وذكر عن الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، قال: لمّا أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روّادًا يرتادون له موضعًا ينزله واسطًا، رافقًا بالعامة والجُنْد، فنُعت له موضع قريب من بارِمّا، وذُكِر له عنه غذاء طيّب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرّر نظره فيه، فرآه موضعًا طيبًا، فقال لجماعة من أصحابه؛ منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب الخوزيّ وعبد الملك بن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيُكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيّب صالحٌ موافقٌ، قال: صدقتم؛ هو هكذا، ولكنه لا يحمل الجندَ والناس والجماعات، وإنما أريد موضعًا يرتفِق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعارُ، ولا تشتدّ فيه المؤونة، فإني إن أقمت في موضع (١) لا يجلَب إليه من البرّ والبحر شيء غلَت الأسعار، وقلّت المادّة، واشتدَّت المؤونة، وشقَّ ذلك على الناس؛ وقد مررتُ في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال؛ فأنا نازل فيه، وبائت به؛ فإذا اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل
(١) هذا خبر غير صحيح ومحمد بن معروف مجهول وأبوه معروف بن سويد إن كان الحزامي فهو مقبول من السابعة [تقريب/ تر ٧٦٥٢].