ثمّ إن عديًّا بعث على الميسرة عمرَ بنَ هبيرة، وبعثه في مئة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطُّفيل بن عامر:
خَلّ رايتَك وتَنحَّ عنّا، فإنّما نحن أصحابُ هذا الموقف؛ فقال الطُّفَيل: إنّي لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البَراء بنُ قبيصة، وهو أميرُنا، وقد علمْنا أنّ صاحبَكم على جماعة الناس، فإن كان قد عَقَد لصاحبكم هذا فبارَك الله له، ما أسمعَنا وأطوَعنا! فقال لهم عمرُ بنُ هبيرة: مهلًا، كُفّوا عن أخيكم وابنِ عمِّكم، رايتنا رايتك، فإن شئتَ آثرْناك بها، قال: فما رأينا رجُلَين كانا أحلَم منهما في موقفهما ذلك، قال: ونزل عديّ بن وتّاد ثمّ زحف نحو مطرّف (١). (٦/ ٢٩٦ - ٢٩٧).
قال أبو مِخنَف: فحدّثني النّضر بنُ صالح وعبدُ الله بنُ علقمة أنّ مطرّفًا بعث على ميمنته الحجّاج بنَ جارية، وعلى ميسرته الرّبيع بن يزيدَ الأسديّ، وعلى الحامية سليمان بن صخر المُزَنيّ، ونزل هو يمشي في الرّجال، ورأيتُه مع يزيد بن أبي زياد مولَى أبيه المغيرة بن شُعبة، قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانَوْا قال لبكير بن هارونَ البجَليّ: اخرُج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسُنة نبيه، وبَكّتْهم بأعمالهم الخبيثة، فخرج إليهم بكير بن هارونَ على فرس له أدهَم أقرح ذنوب عليه الدِّرع والمِغفَر والساعدان، في يده الرمح، وقد شدّ درعَه بعصابة حَمراءَ من حواشي البرُود، فنادى بصوتٍ له عال رفيع: يا أهلَ قِبلتنا، وأهلَ ملّتنا، وأهلَ دعوتِنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تُسرّون مثل عِلمه بما تُعلنون لمّا أنصفتمُونا وصدَقْتمونا، وكانت نَصِيحتُكم لله لا لخَلقه، وكنتم شهداءَ لله على عباده بما يعلَمُه الله من عباده، خبّروني عن عبد الملك بن مروان، وعن الحجّاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبّارَيْن مستأثرَيْن يتّبعان الهوَى، فيأخذَان بالظنّة، ويقتُلان على الغَضَب، قال: فتنادَوْا من كل جانب: يا عدوّ الله كذبتَ، ليسا كذلك، فقال لهم: ويْلَكم {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} ويْلَكم، أو تعلمون من اللهِ ما لا يعلم، إني قد استشهَدتكم وقد قال الله في الشهادة:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}.