حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدِّم بعض مَنْ أخّر ويؤخر بعض مَنْ قَدّم ويُوهم عيسى بن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره؛ ثم يؤذن لعيسى بن موسى من بعدهم، وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئًا، ولا يستعتب. ثم صار إلى أغلظ من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفْر في أصل الحائط فيخاف أن يخرّ عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حُفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر مَنْ معه من ولده بالتحويل. ويقوم هو فيصلِّي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه؛ فإذا رآه المنصور قال له: يا عيسى، ما يدخل عليّ أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكلّ هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين؛ وإنما يكلمه المنصور بذلك ليستطمعه أن يشكوَ إليه شيئًا فلا يشكو؛ وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي أراد منه عيسى بن عليّ، فكان عيسى بن موسى لا يحمَد منه مدخلَه فيه، كأنه كان يغرِي به. فقيل: إنه دسّ لعيسى بن موسى بعض ما يتلفه؛ فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قال: أجد غمزًا يا أمير المؤمنين، قال: ففي الدار إذًا! قال: الذي أجده أشدّ مما أقيم معه في الدار، قال: فإلى أين؟ قال: إلى المنزل، ونهض فصار إلى حَرَّاقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحرّاقة متفزّعًا له، فاستأذنه عيسى في المسير إلى الكوفة، فقال: بل تقيم فتعالج ها هنا، فأبى وألحّ عليه، فأذن له. وكان الذي جرّأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرئيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي. فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحجّ في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.
وتقارب وقتُ الحجّ، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعَى الرّصافة، فأقام بها أيامًا، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرّة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحجّ، واعتلَّ بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلّة من عيسى بن موسى كلَّ مبلغ؛ حت تمعّط شعرُه، ثم أفاق من علّته تلك، فقال فيه يحيى بن زياد بن أبي حزابة البُرْجُميّ أبو زياد:
أَفلَتَ من شَرْبَة الطبيب كما ... أَفلَت ظَبْيُ الصَّريم من قُتَرِهْ