عند الرّشيد: أمَا رأيتَ الغلام المعترض في الدّار! لا والله ما صُرِفْنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرْتُ في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدُم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمْرُه! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنّه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! ! .
قال عبد الله بن عباس: فما حفلتُ بهذا الكلام من قوِل الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين، فإذا النّساء قد خرجْنَ منشوراتِ الشعور محْتزمات بالحبال، يلطمن وجوههنّ وينادين بالوَيْل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيتُ أمرًا أعجبَ من هذا! وعطفت دابَتي راجعًا أركض ركضًا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشَم ينتظرونني لتعلُّق قلب الشيخ بي، فلما رأوْني دخلوا يتعادَوْن، فاستقبلني مرعوبًا في قميصٍ ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه قد مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيّانا منه، فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرّشيد يأمر أبي بالركوب وإيّاي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يُدَّعى ليحيى نبوّة لادّعاها أهلُه، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشكّ في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرِّشيد، فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووَقاك الله يا أمير المؤمنين قَطْع أرحامِك. فقال الرّشيد: الرجل والله سليم على ما يحبّ، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبينُ الارتياع في الشيّخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدّوك الجبار! قال: الحمدُ لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوّه عليّ، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أميرَ المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلحُ له وأريده فكيف ولَسْتُ بطالب له ولا مُريده، ولو لم يكن الظفر به إلّا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقوّيت به عليك أبدًا! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبتَ له عشرة آلاف درهم، ثم طمع منّي في زيادة تمرة لباعَك بها. فقال: أمّا العباسيّ فلا تقل له إلا خيرًا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم.