وبالحَرى إن سقوْه أن يكون ذلك بعد أن يدعوَ بها مرارًا.
وذكر أبو محمد اليزيديّ - وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم - قال: مَنْ قال إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله - بن حسن فلا تصدّقه؛ وذلك أنّ الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتَّق الله في أمري، ولا تتعرَّض أن يكون خصمك غدًا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فولله ما أحدثتُ حدثًا، ولا أويت محدثًا. فرقّ عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذَ بعد قليل فأردّ إليك أو إلى غيرك! فَوجّه معه مَنْ أدَّاه إلى مأمنه. وبلغ الخبرُ الفضلَ بن الربيع، من عين كانت له عليه من خاصِّ خدمه، فعلا الأمرَ، فوجده حقًّا، وانكشف عنده؛ فدخل على الرّشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره. وقال: وما أنت وهذا لا أمّ لك! فلعلّ ذلك عن أمري؛ فانكسر الفضل؛ وجاءه جعفر فدعا بالغدَاء فأكلا، وجعل يلقِّمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أميرَ المؤمنين في الحبْس الضيِّق والأكبال. قال: بحياتي! فأحجَم جعفر - وكان من أدقّ الخلْق ذهنًا، وأصحِّهم فكرًا - وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتِك يا سيِّدي ولكن أطلقته وعلمْتُ أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نَعِمَ ما فعلتَ؛ ما عدوتَ ما كانَ في نفسي. فلما خرج أتبعه بصرَه حتى كاد أن يتوارَى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.
وحدّث إدريس بن بدر، قال: عرض رجل للرشيد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة؛ فادعُ بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسلْه عن نصيحته هذه، فسأله، فأبَى أن يخبرَه وقال: هي سرّ من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمَة الرشيد بقوله، قال: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قال: فلما كان في الهاجرة انصرف مَنْ كان عنده، ودعا به، فقال: أخْلِني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان؛ فوثبوا وبقي خاقان وحُسين على رأسه؛ فنظر إليهما الرّجُل، فقال الرّشيد: تَنَحّيا عنّي، ففعلا، ثم أقبل على الرّجل، فقال: هات ما عندك، فقال: على أن تؤمّني! قال: على أن أؤمنك