سوء القول وسوء الفعل وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيرَه إلى بغداد، وجمع العُمَرِيين، فقال: ما لي ولابن عمِّكم! احتملتُه بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد عليَّ أوليائي! ردُّوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفُق به حتى يردَّه، فدعا له عيسى ببُنيِّ عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلَّمه كثيرًا، ووعظه بما لم يسمع العمريُّ بمثله، ونهاه عن التعرُّض لأمير المؤمنين، فأخذ نعله، وقام وهو يقول:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرَّقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يومًا مع الرشيد إلى الصَّيْد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف، فلما رجع دعا بغذائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاصِّ طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أَنْصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقلَّ ما يجب لك، قال: فأخبِرْني: أنا شرٌّ وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، قال: صدقت، فأخبِرني فمن؟ خير أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيَّه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلَّمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يَكْنِيَاه؛ وهذا وهو في عُتوِّه وجبَريّته؛ على ما قد علمتَ، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله عليَّ، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام، وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدَّبْتَ، ولا بأخلاق الصالحين أخذْت، فما كان يؤمنك أن أسطوَ بك! فإذًا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًّا. قال الزاهد: أخطأتُ يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزَره -: تردُّ على أمير المؤمنين يا جاهل صِلتَه! فقال الرَّشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجَتِك إليه؛ ولكن مِنْ عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحدٌ ليس من أوليائه