ثالثًا: يلاحظ القارئ الكريم أن حدثًا هامًّا وقع في هذه المرحلة الجديدة وأعني دخول مسألة فرض عقيدة فرقة مبتدعة (وأعني المعتزلة) على جمهور العلماء والناس لفترة عقدٍ من الزمان أو أكثر مما أحدث بلبلة وشرخًا في صف المجتمع الإسلامي آنذاك وبدأت معها حملات المغرضين والمرجفين من أهل البدع وأصبح المجال فسيحًا أمام أهل الأهواء والوضاعين لنشر الأخبار الكاذبة والاتهامات الباطلة لعلماء ورموز الأمة يومها، مما دفعنا إلى اليقين بأننا بحاجة إلى قواعد أخرى بالإضافة إلى قواعدنا التي استخدمناها في تمييز الصحيح من الضعيف وإضافة مصادر أخرى إلى مصادرنا السابقة فنحن بحاجة إلى كتب العقيدة والفرق والملل والنحل والمذاهب لنتعرف من خلالها على آراء علماء تلك الحقبة بالإضافة إلى كتب الأدب المستوثقة من نسبتها إلى مؤلفيها وأخيرًا كتب الفقه المختلفة حتى لا ندخل في باب اتهام بعض العلماء زورًا وبهتانًا - وسَنَضْرِب هنا مثلًا لكي نبين الخلط الذي وقع فيه الطبري ولم يتداركه من بعده عدد لا بأس به من الحفاظ وسجّلوا في كتبهم رواية الطبري دون الانتباه إلى ذلك:
فقد ذكر الطبري خبرًا طويلًا عن بداية المحنة بمقولة خلق القرآن وذلك في نهاية عهد المأمون وجاء في موضع من الخبر (٨/ ٦٣٧) - المقطع الثاني من الصفحة - السطر (١٣ و ١٦) أن نائب المأمون في بغداد (إسحاق بن إبراهيم) استدعى عددًا من العلماء وقرأ عليهم كتاب المأمون وسألهم واحدًا واحدًا ليقروا بما جاء في طلب المأمون بضرورة القول بخلق القرآن ومن بين هؤلاء (ابن علية الأكبر والنضر بن شميل) ويؤرخ الطبري لهذا الخبر بسنة (٢١٨ هـ) بينما ذكرت كتب التراجم والرجال أن النضر بن شميل توفي سنة (٢٠٤) للهجرة أي (١٤) عامًا قبل هذا الحدث [وانظر لوفاته تقريب التهذيب/ تر ٨٠٣٥]. وأما فيما يتعلق بابن علية الكبير فإن كان يعني به الإمام الجليل إسماعيل ابن علية (وهو المقصود على الأغلب) فإنه قد توفي أيام الأمين سنة ١٩٣ هـ أي تبل هذه المحنة بربع قرنٍ من الزمان ولم ينتبه الحافظ ابن كثير رحمه الله في سرده لهذا الخبر إلى هذا التناقض سبحان من لا ينسى ولا يسهو ولا يخطئ وهو علام الغيوب.
وهذا مثال ثانٍ يتعلق بمسألة استخدام الشعر في توثيق الخبر التأريخي فكثيرًا