للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما يُخاف ويُتَوقع. قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما تروْنه قد توهّن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرِض له في عاقبة بمدافعة محذور في عاجلة! قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلحْ عاقبةَ أمرِك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنَة يومك بإخطار أدخلتَه على نفسك في غدك. قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: أيّها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدًا على مخالفتك وهل يصير الحازم إلى فضلة مَنْ عاجل الدّعة بخطَر يتعرّض له في عاقبةٍ، بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صارَ من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا أو أمر آخرة.

قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق. فقال: اكتب يا فضلُ إليه، فكتب:

قد بلغني كتاب أمير المؤْمنين يسألني التجافيَ عن مواضعَ سمّاها مما أثبته الرّشيد في العَقْد، وجعل أمره إليّ، وما أمرٌ رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثَره، غير أنّ الذي جعل إلىّ الطرْف الذي أنابه، لا ظنين في النّظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إليّ من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتًا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنتُ على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوٍّ مخوف الشوكة، وعامّة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتُها إلّا بالأموال وطَرَف من الإفضال - لكان في نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يحبّ من لمِّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرًا من عنايته، وأن يستصلحه ببَذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ، ووكّد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو عَلم من الحال ما علمتُ لم يُطلع بمسألة ما كتب بمسألته إليّ. ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.

وكان المأمون قد وجّه حارسَة إلى الحدّ، فلا يجوز رسول من العِراق حتى يوجّهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرًا ولا يؤثر أثرًا، ولا يستتبع بالرّغبة ولا بالرهبة أحدًا، ولا يبلغ أحدًا قولًا ولا كتابًا. فحصر أهل خراسان من أن يُستمالوا برغبة، أو أن تُودع صدورهم رهبة، أو يحمَلوا على منزل خلاف أو

<<  <  ج: ص:  >  >>