للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما ذكرت من الكفر؛ فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدتُه محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه؛ فتركته على حاله؛ ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مَزْدَك في منزلك؛ فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.

قال: ثم تقدم الموْبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحمًا من المذبوحة؛ وكان يقتل شاة سوداء كلّ يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسَّيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي يومًا: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كلّ شيء أكرهه؛ حتى أكلتُ لهم الزيت وركبت الجمل، ولَبست النعل؛ غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة - يعني لم يَطَّلِ ولم يختتن.

فقال الأفشين: خَبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقةٌ هو في دينه؟ - وكان الموْبذ مجوسيًّا أسلم بعدُ على يد المتوكل ونادمه - قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة مَنْ لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوةَ تطلع عليّ منها وتعرف أخباري منها؟ قال: لا، قال: أفليس كنت أدخلك إليّ وأبثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلستَ بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك؛ إذا أفشيت عليّ سرًّا أسررتُه إليك.

ثم تنحّى الموبذ، وتقدّم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هي تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا مُمَخْرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويلَ اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي. قال: فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية "إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان"، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدّي، ولى قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد عليَّ طاعتهم. فقال له

<<  <  ج: ص:  >  >>