طيورًا بيضًا تلقّتْ ذلك الجمع، فلم أستتمّ كلامي حتى بصرت بُسميريّة قد انقلبتْ بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشّذَا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم، وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرّجّالة، وخبطوا مَنْ ولّى من الرّجّالة والنظَّارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشطّ طمعًا في النجاة، فأدركها السيف؛ فمن ثبت قُتِل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرّجّالة إلى النهر فغرقوا وقتِلوا، حتى أبير أكثر ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم، وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل، وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان وأربعون رجلًا من الرّماة المشهورين؛ في خلق كثير لا يحصى عددهم وانصرف الخبيث وجُمعت له الرؤوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبّأ ما بقى عنده من الرؤوس التي لم يأت لها طالب في جريبيّة ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها، فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيّار، فجعل الناس يأتون تلك الرؤوس، فيأخذ رأسَ كل رجل أولياؤه، وقويَ عدوَّ الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرّعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه، وكتِب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجّه جُعْلان التركيّ مددًا لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهليّ بالمصير إلى الأبُلّة واليًا، وأمدّه برجل من الأتراك يقال له: جُريح.
فزعم الخبيث أنّ أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومَنْ لا حراك به، فائْذنْ لنا في تقحُّمها. فزَبرَهم وهجَّن آراءهم، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها؛ فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم؛ فالرأي الآن أن تَدَعو حربَهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم، ثم انصرف بأصحابه إلى سَبَخة بمآخير أنهارهم إردبّ يقارب النهر المعروف بالحاجر، قال شبل: هي سَبخة أبي قرّة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرّة والنهر المعروف بالحاجر.