نبض عرق العصبية والقَبَليّة، وشاعت أخبار الأمم القديمة، وتاريخ الديانات عند الأمم الأخرى؛ كلّ هذا وذاك دعا إلى إضافة مادة تاريخية جديدة؛ فالعلماء حاولوا أن يفهموا إشارات الكتاب الكريم إلى تلك الأمم، والخلفاء رغبوا في معرفة أخبار الملوك من الأمم قبلهم؛ كان يفعل ذلك معاوية وعبد الملك بن مروان وأبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور؛ ومسّت الحاجة إلى معرفة ما فتح من البلاد صلحًا، وما فتح منها عنوة؛ ليقيموا الجزية والخراج على أساس ما رسمه الإسلام في ذلك من تشريع؛ وأخذت الرواية التاريخية تتَّخذ لونًا جديدًا، أطلق عليها اسم الأخبار، ودعي من يرويها بالأخباريّ، كما أطلقوا على من يروي الحديث اسم المحدّث؛ وظهرت في ذلك مؤلفات، فصنف محمد بن السائب الكلبي كتابًا في الأنساب، وعوانة بن الحكم في أخبار بني أمية وأبو مخنف في أخبار الردّة والجمل وصفين، وسيف في أخبار الفتوح، وابن هشام في ملوك حمير. . . وما إن انقضى القرن الثاني حتى أخذت المادة التاريخية تزيد تبعًا لتطور الحياة العربية، واستقرت دواوين الإنشاء والجند والبُرد، وتنوَّعت العهود والوثائق والمراسلات، ومست الحاجة إلى معرفة المواليد والوفيات، ومدد ولايات الخلفاء والولاة والقضاة والقواد وأمراء المواسم في الحج؛ ثم ظهرت الكتب المترجمة عن الفرس واليونان والسريان، وكثرت الرحلة بين البلاد؛ وتعددت المشاهد، واطلع العرب على ما لم يكونوا رأوه من عجائب البلاد، وحضارات الأمم؛ عدا ما كان من اتساع الفتوح، وكثرة الأحداث؛ فوجد العلماء للتاريخ منابع رافدة، ومناهل متنوعة، ومصادر كثيرة؛ وأحسُّوا أن لعلم التاريخ أثرًا في بناء الأمم، وفهم الثقافات، وإرساء العلوم على قواعد ثابتة؛ ولم ير الأفاضل منهم بأسًا في أن يضعوا أسفارًا في التاريخ؛ فعل ذلك الواقديّ في كتب الفتوح، والبلاذريّ في كتابيه البلدان وأنساب الأشراف، وابن قتيبة في المعارف، وابن حبيب في المجبَّر، والدينوري في الأخبار الطوال، إلى أن انتهى الأمر إلى الإمام محمد بن جرير الطبري، فوضع فيه كتابه العتيد (١).
(١) انظر ترجمة علم التاريخ لهرنشو، والفصل الذي ألحقه به مترجمه عبد الحميد العبادي عن التاريخ عند العرب.