٩٣ - فأما ما قال ابنُ إسحاق من ذلك وقصّ من قصّته، فقد تقدّم ذكرِيه قبل. وأمَّا السَّرِيّ فإنَّه فيما كتب به إليّ، عن شُعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيِد الغسَّانيّ وأبي حارثة العبشمي، قالا: خلَّف النَّاسُ بعد فتح دمشق يزيدَ بن أبي سفيان في خَيله في دِمشق، وساروا نحو فِحْل، وعلى الناس شُرَحبيل بن حَسَنة، فبعث خالدًا على المقدّمة وأبا عبيدة وعمرًا على مجنَّبتيه، وعلى الخيل ضِرار بن الأزْور، وعلى الرَّجْل عياض، وكرهوا أن يصمُدوا لهرقل، وخَلْفهم ثمانون ألفًا، وعلِموا: أنّ مَنْ بإزاء فِحْل جُنَّة الرّوم وإليهم ينظرون، وأن الشام بعدهم سِلْم. فلما انتهوْا إلى أبي الأعور، قدّموه إلى طَبَرِيَّة، فحاصرهم ونزلوا على فِحْل من الأردن، -وقد كان أهل فِحْل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرَزُوا إلى بَيسان- فنزل شُرَحبيل بالناس فِحْلًا، والروم بَيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدّثون أنفسهم بالمقام، ولا يريدون أن يَرِيموا فِحْلًا حتَّى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوِّهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال؛ وكانت العرب تسمّي تلك الغزاة فِحْلًا وذاتَ الرَّدَغة وبَيسان، وأصاب المسلمون من ريف الأردنّ أفضلَ ممَّا فيه المشركون؛ مادّتهم متواصِلة، وخصبهم رَغْد؛ فاغترّهم القوم، وعلى القوم سَقَلِاّر بن مِخْراق؛ ورجوا أن يكونوا على غِرَّة، فأتوْهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم، فهم على حَذر. وكان شُرَحبيل لا يبيت ولا يصبح إلّا على تعبية، فلمَّا هجموا على المسلمين غافصوهم، فلم يناظروهم، واقتتلوا بفِحْل كأشدّ قِتال اقتتلوه قطّ ليلتَهم ويومَهم إلى الليل، فأظلم الليلُ عليهم وقد حاروا، فانهزموا وهم حيارَى، وقد أصيب رئيسهم سَقَلّار بن مخراق؛ والذي يلِيه فيهم نسطورس، وظفِر المسلمون أحسنَ ظفر وأهنأه، وركبوهم وهم يَرْون أنهم على قَصْد وجدَد، فوجدوهم حيارَى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتُهم وحَيرتهم إلى الوَحَل، فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم؛ وقد وحِلوا فركبوهم؛ وما يمنعون يد لامس؛ فوخَزُوهم بالرّماح، فكانت الهزيمة في فِحْل؛ وكان مقتلهم في الرّداغ، فأصيب الثمانون ألفًا، لم يُفلِت منهم إلّا الشريد؛ وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البُثوق فكانت عونًا لهم على عدوّهم، وأناةً من الله ليزدادوا بصيرة وجِدًّا،