الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كلّ خير، حتى بعث الله عزّ وجلّ إلينا رسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ فوعدنا النصر في الدّنيا، والجنة في الآخرة؛ فوالله ما زلنا نتعرّف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتحَ والنصر؛ حتى أتيناكم؛ وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبَكم على ما في أيديكم؛ أو نقتل بأرضكم. فقال: أما والله إنّ الأعور قد صَدقكم الذي في نفسه. قال: فقمتُ وقد والله أرعبتُ العلِج جهدِي. قال: فأرسل إلينا العلِجُ: إمّا أن تعبُروا إلينا بنهاوند؛ وإمّا أن نعبرُ إليكم. فقال النعمان: اعبروا، قال أبي: فلم أرَ والله مثلَ ذلك اليوم، إنهم يجيئون كأنهم جبال حديد؛ قد تواثقوا ألّا يفِرّوا من العرب، وقد قرن بعضهم بعضًا؛ سبعة في قِران، وألقوا حسك الحديد خلفهم، وقالوا: من فرّ منا عقره حسك الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أرَ كاليوم فشلًا، إنّ عدوّنا يتُركون يتأهّبون لا يُعْجلون، أما والله لو أن الأمر لي لقد أعجلتهم -وكان النعمان بن مقرّن رجلًا ليّنًا- فقال له: فالله عزّ وجلّ يُشهِدك أمثالها فلا يُحزنْك ولا يعيبُك موقفك، إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلّا شيء شهدته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إنّ رسولَ الله كان إذا غزا فلم يقاتل أوّل النهار لم يعجِل حتى تحضر الصلاة، وتهبّ الأرواح، ويطيب القتال؛ فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إني أسألُك أن تُقِرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، وذلّ يُذَلّ به الكفّار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله! فأمّنّا وبكينا. ثم قال: إني هازٌ لوائي فتيسَّروا للسلاح، ثم هازٌّ الثانية، فكونوا متأهّبين لقتال عدوّكم، فإذا هززتُ الثالثة فليحمل كلُّ قوم على مَنْ يليهم من عدوّهم على بركة الله.
قال: وجاؤوا بحسَك الحديد. قال: فجعل يلبث حتّى إذا حضرت الصلاة وهبّت الأرواح كبّر وكبّرنا، ثم قال: أرجو أن يستجيب الله لي؛ ويفتح عليّ، ثم هزّ اللواء، فتيسّرنا للقتال، ثم هزّه الثانية فكنّا بإزاء العدوّ، ثم هزّه الثالثة.
قال: فكبّر وكبّر المسلمون، وقالوا: فتحًا يعزّ الله به الإسلامِ وأهله، ثم قال النّعمان: إنْ أُصبت فعلَى الناس حُذيفة بن اليمان؛ وإن أصيب حُذيفة ففلان؛ وإنْ أصيب فلان ففلان؛ حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم هزّ اللواء الثالثة، فحمل كلّ إنسان على مَن يليه من العدّو. قال: فوالله ما علمت من المسلمين أحدًا يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله، حتى يُقتل أو يظفر، فحملنا حملة واحدة، وثبتوا لنا،