وأما عاطفة الأبوة فلا ننفي ولا نثبت بل نسكت عن هذه المسألة ولم نهتد فيها إلى الراجح، ولا نقول أكثر من هذا في حق صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكاتب وحيه والخليفة الذي أجمعت الأمة على بيعته حتى سمّي ذلك العام بعام الجماعة. وللعلامة ابن خلدون كلام نفيس رحمه الله في هذه المسألة إذ يقول: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة العامة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ. وقال أيضًا: وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع وإن كان الظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه. [المقدمة / ٢١٠]. ويبدو أن عددًا من الصحابة رفضوا -بداية الأمر- تولية يزيد من بعد أبيه ولكن عددهم تقلّص حتى صاروا على عدد الأصابع ولكنهم من أهل الحل والعقد يومئذٍ، ولقد كثرت الروايات المكذوبة والمزيفة التي تتحدث عن تفاصيل ما جرى بينهم وبين معاوية - رضي الله عنهم - أجمعين. ولم نجد فيها رواية صحيحة تصلح للاحتجاج بها سوى ما أخرجه أبو نعيم عن القاسم بن محمد بن أبي بكر "أن معاوية أخبر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير خرجوا من المدينة عائذين بالكعبة من بيعة يزيد بن معاوية قال: فلما قدم معاوية وسأله عن الأحوال ولم يعرض بشيء من الأمر الذي بلغه، ثم لقي عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فتفاوضا معه في أمر يزيد ثم دعا معاوية بن الزبير، فقال له: هذا صنيعك أنت، استزللت هذين الرجلين وسننت هذا الأمر، وإنما أنت ثعلب روّاغ لا تخرج من جحر إلا دخلت في آخر. فقال ابن الزبير: ليس بي شقاق ولكن أكره أن أبايع رجلين أيكما نطيع بعد أن أعطيكما العهود والمواثيق؟ فإن كنت حللت الأمارة فبايع ليزيد فنحن نبايعه معك، فقام معاوية حين أبوا عليه، فقال: ألا إن حديث الناس ذات غور وقد كان بلغني عن هؤلاء الرهط أحاديث وجدتها كذبًا وقد سمعوا وأطاعوا ودخلوا في صلح ما دخلت فيه الأمة" [حلية الأولياء (/ ٣٣٠)]. قلنا: ورجال إسناد أبي نعيم ثقات والله أعلم. وسنفصل في مسألة البيعة ليزيد بولاية العهد عند حديثنا عن عهد يزيد [٦٠ - ٦٤] هـ إن شاء الله تعالى. =