فقد أخرج ابن عساكر من طرق عدة أنه استغفر الله من أمورٍ عظام ارتكنها وطلب المغفرة عند احتضاره (راجع ترجمته في تأريخ دمشق) منها ما أخرجه من طريق الحكم بن عثمان قال: قال المنصور أبو جعفر أمير المؤمنين عند موته: اللهم إنك تعلم أني قد ارتكبت من الأمور العظام جرأة مني عليك وإنك تعلم أني أطعتك في أحبِّ الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا الله مخلصًا منًّا لك لا منًّا عليك" قال: ثم خرجت نفسه [تأريخ دمشق / المجلد السابق / ٣٤٣]. ولقد لخّص الحافظ الذهبي القول فيه قائلًا في ترجمته: وقد مر من أخباره في الحوادث ما يدلّ على أنه كان فحل بني العباس هيبة وشجاعة وحزمًا ورأيًا وجبروتًا، وكان جمّاعًا للمال، تاركًا للَّهو، واللعب، كامل العقل، جيّد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس، قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه، وكان في الجملة يرجع إلى عدل وديانة وله حظ من صلاة وتديّن، وكان فصيحًا بليغًا مُفَوَّهًا، خليقًا للإمارة. [تأريخ الإسلام / المجلد السابق / ٤٦٦]. قلت وقد ذكرنا من أخباره كما أخرجه الحفاظ (الطبري والبلاذري والبسوي وخليفة والخطيب البغدادي وابن عساكر وابن كثير والذهبي وغيرهم) ما يدلّ على أنه كان خليفة حازمًا ذا هيبة متقشفًا في ملبسه [يشبه في ذلك الخليفة هشام بن عبد الملك] بعيدًا عن اللهو والعبث مجلًا للعلماء والقضاة والزهاد انتعشت الحالة الاقتصادية والمسيرة العلمية في عهده فعسى الله أن يغفر لعبده ولجميع عباده الموحدين. فَلِمَ لا نذكر كل هذه الحسنات مع ذكرنا لأخطائه وقد أمرنا أن لا نبخس الناس أشياءهم. فكيف إذا كان أحد الناس هو المنصور الخليفة المسلم الذي حكم شطر العالم القديم لعقدين من الزمان وزيادة، وبدأ ببناء المدن تأسّيًا بالسلوك الحضاري الذي أرساه الخليفة الراشد الفاروق ومن بعده عدد من خلفاء بني أمية وازدهرت الحركة العلمية في عهده وبرز أولئك الأئمة الأعلام في سنيّ حكمه وانتعشت الحالة الاقتصادية وتعززت هيبة القضاء والعدل ... إلخ ولا ننكر أخطاءه بل ذكرناها ولم ينكرها هو رحمه الله بل أقرّ بها والله خير الحاكمين.