فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار، والسر والإجهار، بالترغيب تارة والترهيب أخرى، وكل هذا لم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان، وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقَّصوه، وتنقَّصوا مَنْ آمن به، وتوعَّدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم. {قَال الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: السادة الكبراء منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، {قَال يَاقَوْمِ لَيسَ بِي ضَلَالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ} أي: لست كما تزعمون أني ضال، بل على الهدى المستقيم، رسول من رب العالمين، أي: الذي يقول للشيء كن فيكون: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا، أي فصيحًا ناصحًا، أعلم الناس بالله عزَّ وجلَّ. وقالوا له فيما قالوا: {مَا نَرَاكَ إلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَينَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} تعجبوا أن يكون بشر رسولًا، وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم، وقد قيل: إنهم كانوا من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: "وهم أتباع الرسل"، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق. وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية. وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه -رضي الله عنهم-، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادحًا الصديق: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم"، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضًا سريعة من غير نظر ولا روية، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة - رضي الله عنهم -. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه، قال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" - رضي الله عنه - (صحيح مسلم / ٤٤/ ١ / ١١). وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَينَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُو} أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَال يَاقَوْمِ أَرَأَيتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}. وهذا تلطف في الخطاب معهم: وترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا منه. يقول لهم: {أَرَأَيتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي النبوة والرسالة {فَعُمِّيَتْ =