أنت رددتَ عليّ كلامي، ولم تعرفْ حقي، فلستَ من نسل والدك، ولا ينبغي الملْك لمثلك، يا بنيّ بأيّ شيء تُدِلُّ علي قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما أتي موسى إلي فرعون؛ أن غرّقه وأنجي قومه من الظَّلمة. أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود؛ أن قتلَ الأسد لقومه، ولحِق الذئب فشقّ شِدْقه، وقتل جالوت الجبّار وحده. أو لعلك أوتيتَ من الملك والحكمة أفضلَ ممَّا أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء؛ إذ صارت حكمتُه مثلًا للباقين بعده! يا بنيّ إنه ما يأتِك من حسنة فأنا أحظَي الناس بها، وإن تكن الأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتدّ غضبُه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمّه! إنه لا ينبغي أن آكلَ علي مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبدَ غيرَ ربِّي. هلمِّي إلي أمر إن أطَعْتني فيه، رَشدت، وإن تركتِه؛ غويت؛ أن تعبدي الله وتكفرِي بكلّ آلهة دونه، فإنه ليس أحد يردُّ هذا عليّ إلا هو لله عدوّ، وأنا ناصره لأني عبدُه.
قالت له: ما كنت لأفارقَ أصنامي، ولا دينَ آبائي وقومي. ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الربّ الذي تدعوني إليه.
فقال لها الملك: حينئذ يا أمّه! إنّ قولَك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحِمي.
وأمر بها الملك عند ذلك فأخرَجوها وغرّبوها، ثم أوصي إلي صاحب شُرْطته وبابه أن يقتلَها إن هي ألمّت بمكانه.
فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة، فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كلّ حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمّه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلي دينه! فاحتالوا له كلّ حيلة، فحفظه الله وأباد مكرَهم. فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا علي فراق دينهم قوام؛ ائتمورا بأن يهربُوا من بلاده، ويسكنوا بلادًا غيرها؛ فخرجوا متوجِّهين إلي زَرْح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه علي أسَا ومن اتبعه؛ فلما دخلوا علي زرْح سجدوا له، فقال لهم: مَنْ أنتم؟ قالوا: نحن عبيدك، قال: وأيّ عبيدي أنتم؟ قالوا: نحن من أرضك أرضِ الشام، وإنّا كنا نعتزّ بملكك، حتى ظهر فينا ملك صبيّ حديث السنّ سفيه، فغيّر ديننا، وسفّه رأينا، وكفّر آباءنا، وهان عليه سخطُنا، فأتيناك لنُعلمك ذلك، فتكون أنت أولي بملكنا؛