ما أنّي أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره؛ لأني أنا زرح الهنديّ الملك.
فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هَمَلت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلَّاه، ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قال: اللهمّ ليس لي شيء من الأشياء أحبّ إلّي مِنْ لقائك؛ غير أني أتخوّف أن يُطفأ هذا النور الذي أظهرتَهُ في أيامي هذه، وقد حضرتْ هذه الصحائف وعلمت ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرًا؛ غيرَ أن عبدك زرحًا يكايدك ويتناولك؛ فَخَر بغير فخر، وتكلَّم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
فأوحي الله إلي أسَا -والله أعلم-: أنه لا تبديلَ لكلماتي، ولا خُلْفَ لموعدي، ولا تحويل لأمري، فاخرج من مصلّاك، ثم مُرْ خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتّبعك حتى تقفوا علي نَشَز من الأرض.
فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلًا من رؤسائهم، مع كلِّ رجل منهم رهط من قومه؛ فلما أن خرجوا، ودّعوا أهاليهم بألّا يرجعوا إلي الدنيا. فوقفوا لزرح علي رابية من الأرض، فأبصروا منها زرحًا وقومَه، فلما أبصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نَهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعي عند ذلك بالنفر الذين كانوا نَعَتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقُتِلوا جميعًا، وأسا في ذلك كثير تضرّعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدْرُ قِلَّتهم في كثرتنا؟ إني لأستقِلّهم عن المحاربة؛ وأري ألّا أقاتلَهم.
فأرسل زرح إلي أسا فقال له: أين صديقُك الذي كنت تعدُنا به، وتزعم أنه يخلّصك مما يحلّ بكم من سَطَواتي! أفتضعون أيديَكم في يدِي فأمضِي فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي!
فأجابه أسا، فقال: يا شقيّ، إنك لست تعلم ما تقول: ولستَ تدري! أتريد أن تغالب ربّك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلّتك؟ هو أعزّ شيء وأعظمه، وأغلَبُ شيء وأقهره، وعبادُه أذلُّ وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معايَنة. هو معي في موقفي هذا، ولن يغلَب أحدٌ كان الله معه. فاجتهد يا سقيّ بجهدك حتى تعلم ماذا يحلُّ بك.