ثم أوحى الله عزَّ وجلّ إلى إرميا أنّي مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافث أهلُ بابل، فهم من ولد يافث بن نوح - عليه السلام - فلما سمع إرميا وحْي ربّه صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذَ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقِّنت فيه التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقِيتُ آخر الأنبياء إلا لما هو شرّ عليّ، لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل؛ فمن أجلي تصيبُهم الشقوة والهلاك!
فلما سمع الله عزّ وجلّ تضرّع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا، أشقّ عليك ما أوحيت لك! قال: نعم يا ربّ؛ أهلِكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به، فقال الله تعالى: وعزّتي وجلالي لا أهلِك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكونَ الأمر من قِبَلك في ذلك. ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربّه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ، لا آمر ربيّ بهلاك بني إسرائيل أبدًا.
ثم أتى ملِكَ بني إسرائيل فأخبره بما أوْحى الله إليه فاستبشر وفرح؛ وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنّا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديًا في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكُهم، فقلّ الوحيّ حين لم يكونوا يتذكّرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكُهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسُ الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قومًا لا رحمةَ لهم بكم، فإنّ ربّكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوْا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه. وإنّ الله ألقى في قلب بختنصّر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر - ونمروذ صاحب إبراهيم - عليه السلام -، الذي حاجه في ربه - أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل. فخرج في ستمئة ألف راية يريد أهلَ بيت المقدس، فلما فَصَل سائرًا أتى ملِكَ بني إسرائيل الخبر أن بختنصّر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمْتَ لنا أنّ ربك أوحى إليك ألّا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك: إن ربّي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.