للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بذلك مثل وزْرِ من تركت في عماه؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا. انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذَكَر بكم صلاح آبائكم، فحمَله ذلك على أن يستتيبَكم يا معشر الأبناء! وسلْهم كيف وجد آباءهم مغبَّة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبّة معصيتي! وهل علموا أن أحدًا قبلهم أطاعني فشقِيَ بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدوابّ مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتَعوا في مروج الهلكة أما أحبارُهم ورهبانهم فاتّخذوا عبادي خوَلًا يتعبَّدونهم دوني، ويحكمون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوْهم ذكري، وغرّوهم مني. وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمِنوا مكري، ونَبَذوا كتابي، ونسُوا عهدي، وغيَّروا سُنّتي، وادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي؛ فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدِع التي يبتدعون في ديني، جُرأةً عليّ وغِرّة، وفِرْية عليّ وعلى رُسُلي، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يُطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني! وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فيتعبَّدون في المساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلَّمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترّون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنَّون عليّ مثل نصرة آبائِهِم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنا لا أحدَ أوْلى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكّر ولا تدبّر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدّهم في أمري، حين غَيَّر المغيّرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عزّ أمري، وظهر ديني، فتأنَّيت بهؤلاء القوم لعلَّهم يستجيبون، فأطولتُ لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، وأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت. وفي كلّ ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدوّ؛ فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني. فحتى متى هذا! أبي يتمرّسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزّتي لأقيِّضنّ لهم فتنة يتحيَّر فيها الحليم، ويضِلّ فيها رأيُ ذي الرأي وحكمة الحكيم، ثم لأسلِّطنّ عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنزع مِن صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قِطَع السحاب، ومراكب أمثال العجاج؛ كأن خفيق راياته طيَرانُ النسور، وكأن حمْلة فرسانه كرير العِقبان.

<<  <  ج: ص:  >  >>