على أن أميتَه، وأكتمه في نفسي، فغلبَني ذلك، فرأيتُ: أنّ الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولًا جميلًا، قال: ما كنت لأقول إلا ذلك، فحدّثيني: هل ينبت زرع بغير بَذر؟ قالت: نعم، قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلَقه من غير بذر، والبذر إنّما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر؟ ! أو لم تعلم: أنّ الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلَق كلَّ واحد منهما وحده؟ ! أو تقول لم يقدر الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدِرْ على إنباته! قال لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكنيّ أعلم: أن الله بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن، فيكون. قالت له مريم: أوَ لم تعلم أنّ الله عزّ وجلّ خلَق آدم وامرأته من غير ذكَرٍ ولا أنثى؟ قال: بلى! فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله عزَّ وجلَّ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه؛ وذلك لمَا رأى من كتمانها لذلك. ثم تولّى يوسف خدمة المسجد، وكَفاها كلَّ عمل كانت تعمل فيه؛ وذلك لما رأى من رِقّة جسمها، واصفرار لونها، وكلَفَ وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوّتها، ودأب نظرها؛ ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك؛ فلما دنا نفاسها؛ أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيَّرُوك، وقتلوا ولدك. فأفضت عند ذلك إلى أختها - وأختُها حينئذ حُبْلى، وقد بُشرت بيحيى - فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدًا معترفًا بعيسى؛ فاحتملها يوسفُ إلى أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف بها؛ حتى إذا كان مُتاخمًا لأرض مصر في مُنقطَع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها إلى آريّ حمار -يعني: مِزْود الحمار- في أصل نخلة؛ وذلك في زمان الشتاء، فاشتدّ على مريم المخاض؛ فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتْها واحتوشتْها الملائكة، قاموا صفوفًا محدقين بها.
فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها:{أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} إلى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}، فكان الرُّطبُ يتساقط عليها، وذلك في الشتاء.