الأرض، وتسكّعوا في علمهم، فلا يمضي لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا يستقِيم لمنجّم عِلْمُ نجومه. وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرمُق برقًا نشأ من قبَل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه؛ فإذا روضة خضراء، فقال فيما يعتاف: لئن صدق ما أرى، ليخرجَنّ من الحجاز سلطان يبلغ المشرق؛ تُخصِب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملِكٍ كان قبله.
فلما خَلَص الكهّان والمنجّمون بعضهم إلى بعض، ورأوْا ما قد أصابهم، ورأى السائب ما رأى، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما حِيل بينكم وبين علمكم إلَّا لأمر جاء من السّماء، وإنه لَنبيّ قد بُعث -أو هو مبعوث - يسلب هذا الملك ويكسره. ولئن نعيتم لكسرى مُلْكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمرًا تقولونه له، تؤخّرونه عنكم إلى أمرٍ ما ساعة.
فجاؤوا كسرى، فقالوا له: إنّا قد نظرنا في هذا الأمر فوجدْنا حُسّابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك، وسكرتَ دجْلة العوراء - وضعوه على النُّحوس، فلما اختلف عليهما الليل والنهار وقعت النحوس على مواقعها، فزال كلّ ما وضع عليهما؛ وإنّا سنحسب لك حسابًا تضع عليه بنيانك فلا يزول. قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنه، فبنى، فعمل في دجلة ثمانية أشهر وأنفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو، حتى إذا فرغ أمنها، قال لهم: أجلس على سورها؟ قالوا: نعم، فأمر بالبُسط والفرش والرياحين فوضعت عليها، وأمر بالمرازبة فجمِعوا له، واجتمع إليه اللعّابون، ثم خرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يستخرج إلَّا بآخر رَمَق.
فلما أخرجوه، جَمع كُهّانه وسُحّاره ومنجّميه، فقتل منهم قريبًا من مئة، وقال: سمّنتكم وأدنيتُكم دون الناس، وأجريت عليكم أرزاقي، ثم تلعبون بي؛ فقالوا: أيها الملك! أخطأنا كما أخطأ مَنْ كان قبلنا، ولكنّا سنحسِب لك حسابًا فتثبّتْ حتى تضعها على الوثاق من السعود. قال: انظروا ما تقولون؛ قالوا: فإنا نفعل؛ قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنِه، فبنى وأنفق من الأموال ما لا يُدرى ما هو، ثمانية أشهر من ذي قِحل. ثم قالوا: قد فرغنا، قال: أفأخرج فأقعد عليها؛ قالوا: نعم، فهاب الجلوس عليها، وركب بِرْذوْنًا له، وخرج