يقل لك! فحزن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك حُزْنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا كثيرًا، فأنزل الله عَزّ وجل -وكان به رحيمًا- يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكُ قبله نبيّ ولا رسول تمنّى كما تمنّى، ولا أحبّ كما أحبّ إلَّا والشيطان قد ألقى في أمْنيَته، كما ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم -، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته؛ أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرّسل، فأنزل الله عزَّ وجلَّ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} , فأذهب الله عزّ وجل عن نبيّه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم:"أنها الغرانيقُ العلا وأنَّ شفاعتهن ترتجى"، بقول الله عزّ وجلّ حين ذكر اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي: عَوْجاء، {إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} - إلى قوله - {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، أي: فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عندَه!
فلمَّا جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيّه، قالت قريش: ندِم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتِكم عند الله، فغيّر ذلك وجاء بغيره؛ وكان ذانِكَ الحرْفَان اللَّذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وقعا في فم كلِّ مشرك، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه، وشدّةً على مَنْ أسلم واتّبع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وأقبل أولئك النّفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين خرجوا من أرض الحبشة لِمَا بلغهم من إسلام أهل مكة حين سجدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أنّ الذي كانوا تحدَّثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيًا، فكان ممَّنْ قدِم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد معه بدرًا من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقيّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخَر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلًا (١). (٢: ٣٣٧/ ٣٣٨ / ٣٣٩/ ٣٤٠).