فنهاهم أولًا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم، وعنَّفهم أشد تعنيف. ثم قال لهم آمرًا بعدما كان عن صدِّه زاجرًا: {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيكُمْ بِحَفِيظٍ}. قال ابن عباس والحسن البصري: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيرٌ لَكُمْ} أي: رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس. وقال ابن جرير: ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان: خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف. قال: وقد روي هذا عن ابن عباس. وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام، فإن الحلال مبارك وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثر، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل" رواه أحمد. أي إلى قلة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما". [مسند أحمد / ٣٧٥٤ و ٥٣١٤] و [البخاري / ٣٤/ ١٩ / ٤٢]. والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر. ولهذا قال نبي الله شعيب: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيكُمْ بِحَفِيظٍ} أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه، لا لأراكم أنا وغيري. {قَالُوا يَاشُعَيبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم: أصلاتك هذه التي تصليها، هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك؟ ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون؟ أو ألا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التي تأباها، وإن كنا نحن نرضاها؟ . {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير: يقول ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء. {قَال يَاقَوْمِ أَرَأَيتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إلا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ}. هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة. يقول لهم: أرأيتم أيها المكذبون {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على أمر بيّن من الله تعالى أنه أرسلني إليكم، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} يعني النبوة والرسالة، يعني وعمي عليكم معرفتها، فأي حيلة لي =