الملك، إنَّ هؤلاء رؤوس العرب ووجوهُهم؛ وهم أشراف يستحيُون من الأشراف؛ وإنّما يكرم الأشرافَ الأشرافُ، ويعظّم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخّم الأشرافَ الأشرافُ؛ وليس كلّ ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كلّ ما تكلّمتَ به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسُن بمثلهم إلّا ذلك؛ فجاوبْني لأكون الذي أبلّغك، ويشهدون على ذلك؛ إنَّك قد وصفتَنا صفةً لم تكن بها عالمًا، فأمَّا ما ذكرت من سُوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منَّا، وأمَّا جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنّا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيَّات؛ فنرى ذلك طعامنا. وأمَّا المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلّا ما غزلْنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم؛ دينُنا أن يقتلَ بعضُنا بعضًا، ويُغيرَ بعضُنا غلى بعض، وإن كان أحدنا ليَدفن ابنتَه وهي حيَّه كراهيةَ أن تاكل من طعامنا؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك؛ فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبَه، ونعرف وجهه ومولِده؛ فأرضُه خير أرضنا، وحسبُه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا؛ وقبيلته خير قبائلنا؛ وهو بنفسه كان خيرَنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمَنا؛ فدعانا إلى أمر فلم يُجبه أحد قبل ترْبٍ كان له وكان الخليفةَ من بعده، فقال وقلنا، وصَدق وكَذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلّا كان، فقذف الله في قلوبنا التَّصديق له واتّباعه؛ فصار فيما بيننا وبين ربّ العالمين؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمرُ الله؛ فقال لنا: إنَّ ربَّكم يقول: إنّي أنا اللهُ وحدي لا شَريك لي، كنتُ إذْ لم يكن شيء وكلّ شيء هالك إلّا وجهي، وأنا خلقتُ كلّ شيء، وإليَّ يصير كلّ شيء، وإنَّ رحمتي أدركتْكم فبعثت إليكم هذا الرّجل لأدُلَّكُمْ عَلَى السَّبيل الَّتي بها أنْجِيكمْ بعد الموت من عذابي، ولأحلَّكم داري؛ دار السَّلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحقّ من عند الحقّ، وقال: مَنْ تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم، ومَنْ أبَى فاعرِضوا عليه الجزية، ثم امنعوه ممَّا تمنعون منه أنفسَكم، ومَن أبى فقاتلوه، فأنا الحكَم بينكم. فمن قُتل منكم أدخلته جنَّتي، ومَنْ بقيَ منكم أعقبته النَّصر على مَنْ ناوأه؛ فاخترْ إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر؛ وإن شئت فالسيف، أو تُسلم فتُنجي نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا!
فقال: ما استقبلتُ إلّا مَنْ كلَّمني، ولو كلَّمني غيرُك لم أستقبلك به. فقال: