للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتكلم عمرو بن ثُبيّ -وكان أكبرَ الناس يومئذ سنًّا، وكانوا إنّما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصّن عليهم أشدّ من المطاولة عليكم، فدعْهم ولا تحرِجْهم وطاولهم، وقاتلْ مَن أتاك منهم؛ فردُّوا عليه جميعًا رأيه. وقالوا: إنا على يقين منْ إنجاز ربِّنا موعدَه لنا.

وتكلّم عمرو بن معد يكرب، فقال: ناهدْهم، وكاثِرْهم، ولا تَخَفْهم. فردُّوا عليه جميعًا رأيه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجُدران، والجُدران لهم أعوان علينا.

وتكلّم طُليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا؛ وأمّا أنا فأرى أن تبعث خيلًا مؤدية، فيُحدقوا بهم، ثم يرموا ليُنشبوا القتال، ويحمشوهم؛ فإذا استحمَشُوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادًا؛ فإنّا لم نستطرِدْ لهم في طول ما قاتلناهم، وإنّا إذا فعلنا ذلك ورأوْا ذلك منَّا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكُّوا فيها، فخرجوا فجادّونا وجاددناهم؛ حتى يقضيَ الله فيهم وفينا ما أحبّ.

فأمر النعمان القعقاع بن عمرو -وكان على المجرَّدة- ففعل؛ وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغَضَهم فلمّا خرجوا نكَص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظنَّ طُليحة وقالوا: هي هي؛ فخرجوا فلم يبقَ أحدٌ إلّا من يقومُ لهم على الأبواب؛ وجعلوا يركبونهم حتى أرَز القعقاع إلى الناس، وانقطع القومُ عن حصنهم بعض الانقطاع؛ والنعمان بن مقرّن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جُمعة في صدْر النهار، وقد عهِد النّعمان إلى الناس عهدَه، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم؛ ففعلوا واستتروا بالحَجَف من الرّمْي، وأقبل المشركون عليهم يرمُونهم حتى أفشوْا فيهم الجراحات، وشكا بعضُ الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألَا ترى ما نحن فيه! ألا ترى إلى ما لقيَ الناس، فما تنتظر بهم! ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رُوَيدًا رُوَيدًا! قالوا له ذلك مرارًا، فأجابهم بمثل ذلك مرارًا: رويدًا رويدًا، فقال المغيرة: لو أنّ هذا الأمرَ إليّ علمتُ ما أصنع! فقال: رويدًا ترى أمرَك؛ وقد كنت تلي الأمر فتُحسن، فلا يخذلنا الله ولا إيّاك؛ ونحن نرجو في المكث مثلَ الذي ترجو في الحثّ. وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمالَ ساعاتٍ كانت أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال أن يلقى فيها العدوّ؛ وذلك عند الزّوال

<<  <  ج: ص:  >  >>