للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتفيُّؤ الأفياء ومهبّ الرياح. فلما كان قريبًا من تلك الساعة تحشْحش النعمان، وسار في الناس على برذونٍ أحوَى قريب من الأرض، فجعل يقف على كلّ راية، ويحمَد الله ويُثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزّكم الله به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هَواديَ ما وعدكم وصدورَه؛ وإنما بقيت أعجازُه وأكارعه؛ والله منجزٌ وعدَه، ومتبعٌ آخر ذلك أوّله، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلّة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزّة، فأنتم اليوم عباد الله حقًّا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظَفَركم وعزّكم؛ والذي عليهم في هزيمتكم وذلّكم، وقد تروْن مَنْ أنتم بإزائه من عدوّكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم؛ فأمّا ما أخطروا لكم فهذه الرِّثّة وما ترون من هذا السواد، وأمّا ما أخطرتم لهم فدينكم وبَيْضتكم، ولا سواءٌ ما أخطرتم وما أخطروا؛ فلا يكونُنّ على دنياهم أحمَى منكم على دينكم؛ واتّقَى الله عبدٌ صدق الله، وأبلى نفسه فأحسن البلاء؛ فإنكم بين خيريْن منتظرَيْن إحدى الحسنيين: من بين شهيد حيّ مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير. فكفى كلّ رجل ما يليه، ولم يكِلْ قِرْنَه إلى أخيه؛ فيجتمع عليه قرنه وقِرْن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه؛ فكلّ رجل منكم مسلّط على ما يليه؛ فإذا قضيت أمري فاستعدّوا فإني مكبر ثلاثًا، فإذا كبّرت التكبيرة الأولى فليتهيّأ مَنْ لم يكن تهيّأ؛ فإذا كبّرت الثانية فليشدّ عليه سلاحه، وليتأهب للنهوض؛ فإذا كبّرت الثالثة؛ فإنّي حامل إن شاء الله فاحمِلوا معًا. اللهمّ أعزّ دينَك، وانصر عبادك، واجعل النعمانَ أوّل شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك!

فلما فرغ النعمان من التقدّم إلى أهل المواقف، وقضى إليهم أمرَه، رجع إلى موقفه، فكبّر الأولى والثانية والثالثة؛ والناس سامعون مطيعون مستعدّون للمناهضة، يُنَحِّي بعضُهم بعضًا عن سَنَنِهم، وحمل النُّعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقضُّ نحوهم انقضاض العُقاب، والنعمان معلَم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا بالسيوف قتالًا شديدًا لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشدّ قتالًا منها، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبَّق أرض المعركة دمًا يزلَقُ الناس والدوابُّ فيه، وأصيب فُرسان من فرسان المسلمين في الزَّلق في الدّماء، فزلق فرس النعمان في الدّماء فصرعه، وأصيب النّعمان حينِ زلق به فرسه؛ وصُرع. وتناولَ الرّاية نُعيم بن مقرّن قبل أن تقع، وسجّى النعمان

<<  <  ج: ص:  >  >>