عزّ وجلّ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم؛ ولكنهم كانوا أكرمَهم أحسابًا، وأمحضهم أنسابًا، وأعظمهم أخطارًا؛ وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلّا بالله الذي لا يُستذل مَنْ أعزّ، ولا يوضَع مَنْ رفع؛ فبوّأهم حرمًا آمنًا يُتَخطّف الناس من حَوْلهم! هل تعرفون عربًا، أو عجمًا، أو سودًا، أو حمرًا إلّا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدوْلة؛ إلّا ما كان من قريش، فإنه لم يردّهم أحدٌ من الناس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن يتنقّذ مَن أكرم واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مَردّ الآخرة، فارتضى لذلك خيرَ خلقه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارُهم قريشًا، ثم بني هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم؛ ولا يصلح ذلك إلّا عليهم؛ فكان الله يحوطهم في الجاهليّة وهم على كفرهم بالله، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم! أفٍّ لك ولأصحابك! ولو أنّ متكلمًا غيرك تكلّم، ولكنك ابتدأت. فأمّا أنت يا صعصعة؛ فإن قَرْيتك شرّ قُرىً عربيّة؛ أنتنُها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيرانًا، لم يسكنها شريف قطّ ولا وضيع إلّا سُبّ بها، وكانت عليه هُجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، وألأمهم أصهارًا، نزّاع الأمم؛ وأنتم جيران الخَطّ، وفَعَلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونكبتْك دعوته؛ وأنت نزِيع شَطير في عُمان، لم تسكن البَحْرين فتشركَهَم في دعوة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلَطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك؛ أقبلتَ تبغي دينَ الله عِوَجًا، وتنزع إلى اللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم؛ إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمّتكم، فأغرى بكم الناس؛ وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يردّ بكم قضاءً قضاه الله، ولا أمرًا أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمرًا أبدًا إلا فتح الله عليكم شرًّا منه وأخزى.
ثم قام وتركهم؛ فتذامروا فتقاصرت إلهم أنفسهم، فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم؛ لا والله لا ينفع الله بكم أحدًا ولا يضرّه؛ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة؛ ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإنْ أردتم النجاة؛ فالزموا جماعتكم؛ وليسعكم ما ولمع الدَّهْماء، ولا يبطرنّكم