للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بصِفِّين، فكنا قد وكَلْنا بفرسه رجلين يحفظانه ويمنعِانه من أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلةٌ يحمِل فلا يرجع حتى يخضِب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفُه، فألقاه إليهم، وقال: لولا أنه انثنى ما رجعتُ - فقال الأعمش: هذا والله ضربُ غير مرتاب، فقال أبو عبد الرحمن: سمع القوم شيئًا فأدّوه وما كانوا بكذّابين - قال: ورأيت عمارًا لا يأخذ واديًا من أودية صِفّين إلا تبعه مَن كان هناك من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ورأيته جاء إلى المِرْقال هاشم بن عتبة وهو صاحب راية عليّ، فقال: يا هاشم! أعَورًا وجبنًا! لا خير في أعوَر لا يغشى البأس، فإذا رجلٌ بين الصفَّين قال: هذا والله ليخلُفَنّ إمامه، وليخذلَنّ جنده، وليَصْبِرَن جهده، اركب يا هاشم" فركب، ومضى هاشم يقول:

أعْوَرُ يَبْغي أهلَهُ مَحَلَّا ... قد عالَجَ الحياةَ حتى مَلَّا

لابدَّ أن يَفُلَّ أو يُفَلَّا

وعمّار يقول: تقدّم يا هاشم! الجنّة تحت ظلال السيوف، والموتُ في أطراف الأسَل، وقد فُتحِت أبواب السماء، وتزينت الحور العين.

اليوم ألقى الأحبَّهْ ... محمَّدًا وحزبَه

فلم يرجعا، وقُتلا - قال: يفيد لك علمهما مَنْ كان هناك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنّهما كانا عَلما - فلما كان الليل قلت: لأدخلنّ إليهم حتى أعلم: هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا! وكنا إذا توادعنا من القتال تحدّثوا إلينا وتحدّثنا إليهم، فركبت فرسي وقد هدأت الرِّجل، ثم دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: معاوية، وأبو الأعور السُّلَميّ، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو - وهو خير الأربعة - فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشِّقَّيْن، فقال عبد الله لأبيه: يا أبت! قتلتم هذا الرجلَ في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال! قال: وما قال: قال: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس يَنقلون حجرًا حجرًا ولَبِنة لَبِنة، وعمَّار ينقل حجريْن حَجريْن ولبنتين لبنتين، فغُشي عليه، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: "ويحك يابن سُمَيّة! الناس ينقلون حجرًا حجرًا، ولبِنة لبِنة، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبةً منك في الأجر! وأنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية! ". فدفع عمرو صدرَ فرسه، ثم جذب معاوية إليه، فقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>