تُصدع جباههم بعُمُد الحديد، وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان، أين أهل الصبر، وطلّاب الأجر؟ ! فثاب إليه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمدًا؛ فقال: امش نحوَ أهل هذه الراية مشيًا رُويدًا على هِينتك، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح، فأمسِك حتى يأتيَك رأي. ففعل، وأعدّ عليٌّ مثلهم، فلمّا دنا منهم فأشرع الرِّماح في صدورهم أمر على الذين أعدّ فشدّوا عليهم، وأنهض محمدًا بمن معه في وجوههيم، فزالوا عن مواقفهم، وأصابوا منهم رجالًا، ثم اقتتل الناس بعد المغرب قتالًا شديدًا، فما صلَّى أكثر الناس إلّا إيماء.
رجع الحديث إلى حديث أبي مِخنف: قال أبو مخنف: فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها حتى الصباح؛ وهي ليلة الهَرير، حتى تقصّفت الرّماح ونفد النَّبْل، وصارَ الناس إلى السيوف، وأخذ عليّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلَّ كتيبةٍ من القرّاء أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك بالناس ويقوم بهم حتى أصبح والمعركة كلّها خَلْف ظهره، والأشتر فى ميمنة الناس، وابن عبّاس في الميسرة، وعليّ فرب القلْب، والناس يقتتلون مْن كلّ جانب، وذلك يومَ الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولّاها عشيّة الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، وأخذ يقول لأصحابه: ازحفوا قادَ هذا الرّمح، وهو يزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعلوا قال: ازحفوا قادَ هذا القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك، حتى ملّ أكثر الناس الإقدام، فلمَّا رأق ذلك الأشتر قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائرَ اليوم، ثم دعا بفرسه، وترك رايتَه مع حيَّان بن هوذة النخعيّ، وخرح يسير في الكتائب ويقول: من يشتري نفسَه من الله عزّ وجلّ، ويقاتل مع الأشتم، حتى يظهر أو يلحق بالله! فلا يزال رجل من الناس قد خرج إليه، وحيّان بن هوذة.
رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف: فلما رأى عمرو بن العاص أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ، وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلّا فُرقة؟ قال: نعم؛ قال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حَكَمٌ بيننا وبينكم، فإن أي بعضُهم أن يقبلها وجدت فيهم مَن يقول: بلى، ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن