ما شهدتُها! ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر لحَبِ الحمَّى خزَلني عنها؛ فقال:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
خبِّرني ما تقول الناس فيما كان بيننا وبينُ أهل الشام؟ قالا: فيهم المسرور فيما كان بينك وبينهم - وأولئك أغِشَّاء الناس - وفيهم المكبوت - الآسف بما كان من ذلك - وأولئك نُصحاء الناس لك - فذهب لينصرف، فقال: قد صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطًّا لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجرَ فيه، ولكنه لا يَدَع على العبد ذنبًا إلا حطَّه؛ وإنما أجرٌ في القول باللسان، والعمل باليد، والرِّجل، وإنّ الله جل ثناؤه ليُدخل بصدق النيَّة والسريرة الصالحة عالمًا جمًّا من عباده الجنة. قال: ثم مضى عليٌّ غير بعيد، فلقيه عبد الله بن وَدِيعة الأنصاريّ، فدنا منه، وسلّم عليه وسايره، فقال له: ما سمعتَ الناس يقولون في أمرنا؟ قال: منهم المعجَب به، ومنهم الكاره له، كما قال عزّ وجلّ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}. فقال له: فما قول ذَوِي الرّأي فيه؟ قال: أما قولهم فيه فيقولون: إنّ عليًّا كان له جمع عظيم ففرّقه، وكان له حِصن حَصِين فهدّمه، فحتى متى يبني ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرّق! فلو أنه كان مضى بمن أطاعه؛ إذ عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظفر أو يهلك إذًا كان ذلك الحزم. فقال عليٌّ: أنا هدمت أم هم هدموا! أنا فرّقت أم هم فرّقوا! أما قولهم: إنه لو كان مضى بمن أطاعه؛ إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يَظفرَ أو يهلك، إذًا كان ذلك الحزم، فوالله ما غَبِيَ عن رأيي ذلك، وإن كنتُ لسخيًّا بنفسي عن الدنيا طيّبَ النفس بالموت، ولقد هممتُ بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدَرَاني - يعني: الحسن، والحسين - ونظرتُ إلى هذين قد استقدماني - يعني: عبدَ الله بن جعفر، ومحمد بن عليّ - فعلمت أن هذين إنْ هلكا انقطع نسْلُ محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمَّة، فكرهت ذلك، وأشفقتُ على هذين أن يَهلِكا، وقد علمتُ أن لولا مكاني لم يستقدما - يعني: محمد بن علي، وعبدَ الله بن جعفر - وايمُ الله لئن لقيتُهم بعد يومي هذا لألقينّهم وليسوا معي في عسكر ولا دار! ثم مضى حتى إذا جُزْنا بني عوف إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية، فقال عليٌّ: ما هذه القبور؟ فقال قُدامة بن العجلان الأزديّ: يا أميرَ المؤمنين! إنّ خبّاب بن الأرتّ توفِّي بعد مخرجك، فأوصَى بأن يُدفَن في الظَّهر، وكان الناس إنما يُدفنون في دُورهم