فعفا عنه عليّ عليه السلام في الأربعمئة الذين كان عفا عنهم من المرتثِّين يوم النّهر، فكان في أهله وعشيرته، فلبث شهرًا أو نحوَه. ثم إنه خرج إلى الرّيّ في رجال كانوا يَروْن ذلك الرأي، فلم يزالوا متهيمين بالرّيّ حتى بلغهم قتلُ عليّ كرّم الله وجهه، فدعا أصحابه أولئك - وكانوا بضعةَ عشر رجلًا، أحدهم سالم بن ربيعة العبسيّ - فأتَوْه، فحمدَ الله وأثنَى عليه ثم قال: أيّها الإخوان من المسلمين، إنه قد بلغني أنّ أخاكم ابن ملجم أخا مُراد قَعد لقتل عليّ ابن أبي طالب عند أغباش الصُّبح مقابل السُّدّة التي في المسجد مسجد الجماعة، فلم يبرح راكدًا ينتظر خروجَه حتى خرج عليه حين أقام المقيمُ الصّلاة صلاة الصبح، فشدّ عليه فضرب رأسَه بالسيف، فلم يَبق إلا ليلتين حتى مات، فقال سالم بن ربيعة العبسيّ: لا يقطع الله يمينًا علتْ قَذالَه بالسَّيف؛ قال: فأخذ القومُ يَحمَدون الله على قتلِه عليه السلام ورضي الله عنه ولا رضيَ عنهم ولا رحمهم!
قال النّضْر بن صالح: فسألت بعد ذلك سالمَ بن ربيعة في إمارة مُصعب بن الزبير عن قوله ذلك في عليّ عليه السلام، فأقرّ لي به، وقال: كنت أرى رأيهم حينًا، ولكن قد تركتُه؛ قال: فكان في أنفسنا أنه قد تركه؛ قال: فكان إذا ذكروا له ذلك يُرْمضه. قال: ثمّ إنّ حيّان بن ظَبيان قال لأصحابه: إنه والله ما يَبقى على الدّهر باقٍ، وما تَلبث الليالي والأيام والسنُون والشهور على ابن آدم حتى تُذيقَه الموت، فيفارق الإخوان الصالحين، ويدَع الدّنيا التي لا يَبكي عليها إلا العَجَزة، ولم تزل ضارّةً لمن كانت له همًّا وشَجَنًا؛ فانصرِفوا بنا رحمكم الله إلى مصرِنا، فلنأت إخوانَنا فلندْغهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذرَ لنا في القعود، ووُلاتُنا ظَلَمة، وسنّة الهدى متروكة، وثأرنا الّذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يُظفرنا الله بهمْ نعمِد بعد إلى التي هي أهدَى وأرضَى وأقومَ، ويَشفي الله بذلك صدورَ قوم مؤمنين، وإن نُقتل فإنّ في مفارقة الظالمين راحةً لنا، ولنا بأسلافنا أسوة. فقالوا له: كلّنا قائل ما ذكرتَ، وحامدٌ رأيَك الذي رأيت، فرِدْ بنا المِصرَ فإنا معك، راضون بهُداك وأمرك؛ فخرج وخرجوا معه مقبِلين على الكُوفة، فذلك حين يقول:
خليلَيَّ ما بي من عَزاءٍ ولا صبْرِ ... ولا إِرْبَةٍ بعد المُصابِينَ بالنَّهْرِ
سِوَى نَهَضاتٍ في كتائِبَ جَمَّةٍ ... إِلى الله ما تَدْعُو وفي الله ما تَفْرِي