للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= أُمُّكِ بَغِيًّا} أي: لست من بيت هذه شيمتهم ولا سجيتهم، لا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى، ورموها بالداهية الدهياء.
فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال، عَظُمَ التوكل على ذي الجلال، ولم يبقَ إلا الإخلاص والاتكال {فَأَشَارَتْ إِلَيهِ} أي: خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه، فعندها {قَالُوا} من كان منهم جبارًا شقيًا: {كَيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أي: كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين مخيض وزبدة، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولًا نطقيًّا، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيًّا فعندها: {قَال إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: ٣٠ - ٣٣].
هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم، فكان أول ما تكلم به أن {قَال إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه، فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم، وكما قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا: إنها حملت به من زنى في زمن الحيض، لعنهم الله فبرأها الله من ذلك، وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيًّا مرسلًا أحد أولي العزم الخمسة الكبار، ولهذا قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنْتُ} وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة، والإحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقرى الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.
ثم قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} أي: وجعلني برًا بوالدتي، وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} أي: لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته. {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبيّن أمره ووضحه وشرحه قال: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ =

<<  <  ج: ص:  >  >>