كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى - عليه السلام - كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا في الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيّده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا. وهكذا عيسى ابن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنَّى لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى، والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟ هذا - مما يعلم كل أحد - معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله. وهكذا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق عزَّ وجلَّ، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والمقصود أن عيسى - عليه السلام - لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب من بينهم طائفة صالحة فكانوا له أنصارًا وأعوانًا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين همّ به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى، وهم في ذلك غالطون، وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون. =