للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما الأَمرُ إلى الجليلِ ... وكلُّ حيٍّ لسَالكُ السّبيل

قال: فأعادها مرّتين أو ثلاثًا حتى فهمتُها، فعرفتُ ما أراد، فخنقتْني عَبرتي، فرددتُ دمعي ولزمت السكون، فعلمتُ أنّ البلاء قد نزل؛ فأما عمتي فإنها سمعتْ ما سمعتُ، وهي امرأة، وفي النساء الرِّقَّة والجَزَع، فلم تملكْ نفسها أن وثبتْ تجرّ ثوبَها، وإنها لَحاسرة حتى انتهت إليه؛ فقالت: واثكْلاه! ليت الموتَ أعدَمَني الحياةَ! اليوم ماتت فاطمة أمي وعليّ أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثِمال الباقي، قال: فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال: يا أُخَيّة! لا يُذهبنَّ حِلمك الشيطان؛ قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! استقتلَت نفسي فِداك؛ فردّ غُصّته، وترقرقتْ عيناه، وقال: لو ترِك القَطَا لَيْلًا لنام؛ قالت: يا ويلَتي! أفتغصب نفسك اغتصابًا، فذلك أقْرَح لقلبي، وأشدُّ على نفسي! ولطمتْ وجهَها، وأهوَتْ إلى جَيْبها وشَقَّته، وخرَّت مغشيًّا عليها، فقام إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: يا أُخيّة! اتَّقي الله وتعزَّي بعزاء الله .. واعلمي: أنّ أهلَ الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يَبقْون، وأنّ كلّ شيء هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحدَه، أبي خيرٌ مني، وأمي خيرٌ مني، وأخي خيرٌ مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة؛ قال: فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخيّة! إني أقسم عليك فأبرِّي قَسمي، لا تشقِّي عليّ جيبًا، ولاتَخمِشي عليّ وجهًا، ولا تَدْعي عليّ بالوَيْل والثبُور إذا أنا هلكتُ؛ قال: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعضَ بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوِّهم (١). (٥: ٤٢٠ - ٤٢١).

قال أبو مخنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المِشْرَقيّ، قال: فلما أمسى حسين وأصحابه قاموا الليلَ كلَّه يصلّون ويستغفرون، ويَدْعون ويتضرّعون، قال: فتمرّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإنّ حسينًا ليقرأ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨) مَا


(١) في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك.

<<  <  ج: ص:  >  >>