وبمرور الزمن ظهر بين المحدثين والمؤرخين وحتى الفقهاء والمفسرين من نادى بضرورة تمحيص الروايات التأريخية ابتداءً بالإمام المالكي القاضي ابن العربي ومرورًا بابن تيمية والحافظ الذهبي ثم ابن خلدون والحافظان ابن حجر وابن كثير.
يقول الدكتور محمد السلمي:[ومن أبرز من تصدى لإيضاح المغالط التأريخية وردّ زيوف الروايات المكذوبة، القاضي ابن العربي في كتاب العواصم، والإمام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله خاصة كتابه القيم منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية وكذا الحافظ الناقد الذهبي في كثير من مؤلفاته التأريخية مثل كتاب سير أعلام النبلاء وتأريخ الإسلام ومشاهير الأعلام وميزان الاعتدال في نقد الرجال وأيضًا الحافظ ابن كثير المفسر المؤرخ في كتابه البداية والنهاية وأيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري وكتاب لسان الميزان وتهذيب التهذيب والإصابة].
قلت: إن نقد الرواية التأريخية والذي تطور أخيرًا ليصل إلى فكرة إعادة كتابة التأريخ الإسلامي ثم بلورة منهج واضح المعالم لهذه الإعادة هي في الحقيقة عمل تراكمي جماعي وكتاب العواصم من القواصم أنموذج صغير ونادر لإعادة كتابة التأريخ دون أن يكون هذا المصطلح معروفًا يومها ولكن الفكرة والمنهج أفصح عند العلامة المؤرخ ابن خلدون الذي مثل في مقدمته منهج المؤرخ الملتزم والذي يعتبر (باعتراف المستشرقين) مؤسس علم التأريخ.
ولا بد لكل باحث يطرق هذا الباب أن تكون لديه فكرة عن منهج ابن خلدون هذا. يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله وهو يتحدث عن علم التأريخ قائلًا:[فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبيت يفضيان بصاحبه إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط].
ويقول أيضًا: [وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًا أو سمينًا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سيروها بمعيار الحكمة والوقوف