قال: ووضع قتيبةُ عيونًا على العدوّ حتى إذا قَرُبوا منه قَدْرَ ما يَصِلُون إلى عسكره من الليل أدخَل الذين انتخَبَهم فكلَّمهم وحَضَّهم واستَعَمل عليهم صالح بن مسلم، فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فَرسَخَينَ من العسكر على طريق القوم الذين وَصَفوا لهم، ففرّق صالح خيلَه، وأكمن كَمِينًا عن يمينه، وكَمِينًا عن يساره، حتى إذا مَضَى نصفُ الليل أو ثلثاه، جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصَمت، وصالحٌ واقفٌ في خَيْله، فلما رأوْه شدّوا عليه، حتى إذا اختلفت الرماح شدَّ الكَمِينان عن يمين وعن شِمال، فلَم نسَمع إلا الاعتزاء، فلم نَرَ قومًا أشدَّ منهم. (٦/ ٤٧٦ - ٤٧٧).
قال: وقال رجلٌ من البَراجم: حدّثني زُهير أو شُعبة قال: إنا لنختَلف عليهم بالطعن والضّرب إذ تبينت تحتَ الليل قُتيَبةَ، وقد ضربتُ ضربةً أعجبتْني وأنا انظر إلى قتيبة، فقلت: كيف ترى بأبي أنت وأمي! قال: اسكُت دَقّ اللهُ فاك! قال: فقتلناهم فلم يُفلِت منهم إلا الشريد، وأقمنا نَحوِي الأسلابَ ونحتزّ الرؤوسَ حتى أصبحْنا، ثم أقبلْنا إلى العسكر، فلم أر جماعةً قطّ جاؤوا بمثل ما جئنا به، ما مِنّا رجلٌ إلَّا معلِّق رأسًا معروفًا باسمه، وأسيرًا في وَثاقه.
قال: وجئنا قُتيبةَ بالرؤوس، فقال: جزاكم الله عن الدِّين والأعراض خيرًا.
وأكرمني قتيبة من غير أن يكون باحَ لي بشيء، وقرن بي في الصّلة والإكرام حيّانَ العدَويّ وحُلَيسًا الشيبانيّ، فظننتُ أنه رأى منهما مِثلَ الذّي رأى منّي، وكسر ذلك أهل السّغْد، فطلبوا الصلْح وعرَضوا الفِدْية فأبى، وقال: أنا ثائر بدم طَرْخون، كان مولاي وكان من أهل ذمتي. (٦/ ٤٧٧ - ٤٧٨).
قالوا: حدث عمرو بن مسلم عن أبيه، قال: أطال قتيبةُ المُقامَ، وثُلمتِ الثلمة في سمرقند. قال: فنادى منادٍ فصيح بالعربية يَشتُم قتيبة؛ قال: فقال عمرو بن أبي زَهْدم: ونحنُ حولَ قتيبةَ، فحين سمعنا الشتم خرجْنا مسرِعين، فمَكثْنا طويلًا وهو مُلِحٌّ بالشتم، فجئتُ إلى رِواق قُتيبةَ فاطّلعت، فإذا قتيبةُ محْتَب بشَمْلة يقول كالمناجي لنفسِه: حتى متى يا سمرقَنْد يعشش فيك الشيطان! أما والله لئن أصبحتُ لأحاولنّ مِن أهلِك أقصى غاية، فانصرفتُ إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبيّة ستموت غدًا منّا ومنهم! وأخبرتُهم الخبَر. (٦/ ٤٧٨)