وخرج يزيد بعد ذلك يومًا وهو يرتادُ مكانًا يَدخُل منه على القوم، فلم يَشعُر بشيء حتى هَجم عليه جماعةٌ من الترك - وكان معه وجوه الناس وفُرسانُهم، وكان في نحو من أربعمئة، والعدوّ في نحو من أربعة آلاف- فقاتلَهم ساعةً، ثمّ قالوا ليزيد: أيّها الأمير، انصرِف ونحنُ نُقاتِل عنك، فأبَى أن يَفعَل، وغَشَى القِتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سَبْرة وابنا زَحْر والحجَّاجُ بن جارية الخثعَميّ وجُل أصحابه فأحسنوا القِتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جَعَل الحجّاجَ بن جارية على الساقة، فكان يُقاتِل مَن وراءه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عَطِشوا فَشرِبوا، وانَصَرف عنهم العدوّ، ولم يَظفرُوا منهم بشيء، فقال سُفيان بن صفْوان الخَثْعميّ:
وحَمَاكَ في فُرْسَانِهِ وخيُولهِ ... حتَّى وَرَدتَ الماءَ غَيْرَ مُتَعتَع
ثم إنّه ألحّ عليها وأنزل الجنود من كلّ جانب حولَها، وقَطَع عنهم الموادّ، فلمّا جُهِدوا، وعَجَزوا عِن قتالِ المسلمين، واشتدّ عليهم الحصار والبلاء، بعث صُول دِهْقان دِهستان إلى يزيدَ: إني أصالحك على أن تؤمنَني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفَع إليك المدينة وما فيها وأهلها.
فصالَحه، وقَبِل منه، ووَفَى له، ودَخَل المدينَة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكُنوز ومن السَّبي شيئًا لا يُحصَى، وقتَل أربعةَ عشر ألف تُركيّ صَبْرًا، وكتَب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك.
ثمّ خَرَج حتى أتى جُرْجانَ، وقد كانوا يُصالحون أهلَ الكوفة على مئة ألف، ومئتي ألف أحيانًا، وثلاثمئة ألف، وصالحوهم عليها، فلما أتاهم يزيدُ استقبلوه بالصّلح، وهابوه وزادُوه، واستخلَف عليهم رجلًا من الأزد يقال له: أسدُ بنُ عبد الله، ودخل يزيدُ إلى الإصبهبَذ في طَبَرِسْتان فكان معه الفَعَلة يَقطَعون الشَّجر، ويُصلِحون الطرق، حتى انتهوْا إليه، فنَزل به فحصَرَه وغَلَب على أرضِه، وأخذ الإصبهبذ يَعوِض على يزيدَ الصلح ويزيده على ما كان يُؤخَذ منه، فيأبَى رجاء افتتاحهَا، فبعث ذاتَ يوم أخاه أبا عُيينة في أهل المِصريْن، فأصَعد في الجَبَل إليْهم، وقد بعث الإصبهبذ إلى الدّيلم، فاستجاشَ بهم، فاقتتلو! ، فحازهم المسلمون ساعةً وكَشفوهم، وخرج رأسُ الدّيلم يَسأل المُبارَزة، فخرج