وُجوههم فتنحّوْا، وأخلَوْا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوْا انصرف الترك، وأحرق العربُ القنطرة، فأتاهم خُسرو بن يَزْدَجِرْد في ثلاثين رجلًا، فقال: يا معشَر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد عليّ مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف.
قال: وجاءهم بازغري في مئتين - وكان داهية - من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمِنونا حتى ندنُوَ منكم، فأعرِض عليكم ما أرسلني إليكم به خاقان، فآمنوه، فدنا من المدينة، وأشرفوا عليه ومعه أسَراء من العرب، فقال بازغري: يا معشَر العرب، أحدِروا إليّ رجلًا منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيبًا مولى مَهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم، فقال: أحِدروا إليّ رجلًا يعقل عني، فأحدروا يزيد بن سعيد الباهليّ، وكان يشدّو شدوًا من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء. وقال: إن خاقان أرسلني إليكم؛ وهو يقول لكم: إني أجعل مَنْ كان عطاؤه منكم ستمئة ألفًا، ومن كان عطاؤه ثلاثمئة ستمئة؛ وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم، كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاءٌ! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغري، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قال: لا، نزل إلينا بأمان. وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغري إلَّا أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النِّصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه؛ وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السُّغد، فرضي بازغري والتركيان بما قال: فقال له: أعرض على القوم ما تراضيْنا به، وأقبل فأخذ بطرَف الحبْل فجذبوه حتى صار على سُور المدينة، فنادى: يا أهل كَمَرْجَة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين. قالوا: نموت جميعًا قبل ذلك. قال: فأعلموهم.
قال: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادى بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قال لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أنتم عندنا إلَّا بمنزلة مَن في أيدينا منكم - وكان في أيديهم الحجاج بن حُميد